02-مارس-2020

عاطف عبد العزيز (فيسبوك)

دون أدنى تكلّفٍ لغويّ يلج بنا عاطف عبد العزيز (1956) داخل عوالم جديدة غير تقليديّة في مجموعته الجديدة "شيءٌ من هذا الغبار" (منشورات المتوسط،2019)، فصاحب "مخيال الأمكنة" يبدو وكأنّه لا يرغب بخوض تجارب جديدةٍ في اللغة بقدرِ ما يكرّس نفسه لنقلِ الحدثِ اليومي المستمر، وبلغته اليوميّة المألوفة، كنوعٍ من "وقعنة" الخطاب الشعري، وتركه يأخذ قوالبه التي قد تكون شكليًّا غير مختلفةٍ عن تجارب الشاعر السابقة في هندسته لقصيدة النثر، غير أنّه فيما يطأ القارئ أرضها لا يلبث إلا وتسحبه خصوصيّتها وفرادة أجوائها.

تأتي المرأة كأول مقامٍ خطابي في الكتاب، هذه المرأة التي نجدها تتلوّن بأجساد مختلفة في أنحاء القصائد، نجدها تلك الفاتنة المغرية: "يرفّ نهدكِ المبلول في عينيّ/ وينير إبطك فجأة ما عتم من الغابة"، أو تلك القادرة على كسر نرجسيّة الرجل: "أن تجعلَ من طاووسٍ جامحٍ مثلك أمثولة: صيادًا تصيده الطرائد" وغير ذلك من الوجوه.

ما يمكن ملاحظته في مجموعة عاطف عبد العزيز هو استرسالها المفرط في السرد، لدرجة أنّ بعض نصوصها تبدو أقرب إلى اليوميات

بيد أنّ هذه المرأة المتعددة الوجوه لا تلبثُ أن تجد نفسها واحدةً داخلَ حقلٍ معجميّ خاص بشجاعة "المهندس" في الولوجِ إلى المحرمات بإباحيّةٍ، تحاولُ إزاحة شيءٍ من الغبار عن الملامح المطموسة لهذه العلاقات التي تمرّ بخفّةٍ في هذا العالم.

اقرأ/ي أيضًا: بين انتحارين... خليل حاوي أرادها في الرأس

هذا ويخرج الشاعر من عالم امرأته ووجوهها، داخلًا في محيطه الواسع في المدينة وناقدًا لها، تحديدًا تلك التفاصيل التي تهرب من الذهن وبالكاد يمكن التقاطها، يبرعُ الشاعر في تحويلها إلى شيء مكتوب، فنجده يرثي مكانًا تغيّرت معالمه لمّا فقد شخصيّة من شخصياته في قصيدة ابن الجيران، أو تلمّس رائحة الموت التي لا تزول بانتهاء فصول الحرب عندما يقول: "لو تشمّمت الهواء حولك جيدًا/ لعرفت أنّ روائح الموت لم تذهب بعد".

شخصية الشاعر نفسها تحضرُ في النصوص، غير أنّ عاطف يتقمّص الناس في نظرتهم له في قصيدة لم يتشاجر يومًا في حانة، بل يعطي الشاعر نفسه أيضًا أقنعة كثيرة بتعدد وجوهه وشخوصه، ويرثي حاله وحال أقرانه الشعراء في علاقاتهم الحميمة العاطفية، فيقول: "أفكّر في احتماليّة أن تكون قد أهدرت مواهبها من أجلِ شاعرٍ فاشل/ شاعرٌ لا يجيد في الغالب سوى الجلوس غافيًا على المرحاض".

ما يمكن ملاحظته في المجموعة الحادية عشرة لعبد العزيز هو استرسالها المفرط في السرد، لدرجة أنّ بعض نصوصها تبدو أقرب إلى اليوميات، كما في نص "سأم القاهرة" الذي يمرّ في الزمن بسرعة كبيرة، ويكرّ الحكي فيه دون تكثيفٍ أو إيجاز، بل بتفصيل بصريّ ثاقب: "ساعتها وقع نظري صدفةً على المرآة المشروخة في آخر البهو، فلاحظتُ أنّ ذقني يحتاجُ إلى الحلاقة، بينما كنتُ قد تأخرت عن العمل فعلًا ولم أكن راغبًا في إضافة مزيدٍ من المشكلات إلى يومي: يومي الذي كان بائنًا من أوّله".

مما يعيد الجدل حول قدرة قصيدة النثر على استيعاب السرد لمّا اعتبر بوالو رواية "مغامرات تيليماك" لفرانسوا فينيلون قصيدة نثر، أو حتى قدرة النثر على احتمال الشحنات الشعرية لتصبح قصيدة كما ذهبت سوزان برنار. هنا نجد أن السرد يعطي النصّ طابعًا واقعيًا يقرّبه من القصة، فيحكي وكأنّه شخص بسيط عادي يهمه الطعام والشراب وينشغل بسنوات عمره وكيفية تبديدها، بيد أنّ تطرّف الفكرة واتخاذها أبعادًا حادة، كذلك الشغل الواضح على البصريات وتحديث الصور الشعريّة بتركيبيةٍ غير متكلّفةٍ تعطي تلك اللمسة الشعرية التي تجعلنا نقبل بتسمية النص "قصيدة نثر"، كما يقول في قصيدته أن ترجع وحدك: هكذا، سحب صاحبته بجسارةٍ إلى ما وراء الشجر الملتف، ثمّ عاد بتذكاراتٍ ترفع الرأس، أمّا أنت فأنفقت نزهة العيد في حلّ الكلمات المتقاطعة، عسى أن تفلت من شهوة الفتاة الإفريقية العريضة... دارسة الطب.

قد يكون "شيء من هذا الغبار" كتاب الشاعر عاطف عبد العزيز مجموعة شعرية بلغةٍ قصصية، أو مجموعة قصصية بلغةٍ شعرية

تتجلى الواقعية الأدبية الشعرية بكون ضمير المتكلّم هو اللاعب الأبرز في نصوص الكتاب الـ21 الممتدّة على 72 صفحة، هذا الضمير الذي نجده مرتديًا لكلّ ما يريد الشاعر قوله ولكلّ ما يراه، وبهذا نجده منزلقًا في تفاصيل مدينة القاهرة الحاضرة في معجم خاص بمصطلحاتها المحكيّة "المعادّي، البواب، الناشف..."، هذه المصطلحات وغيرها التي جاءت عن غير تكلّفٍ وقصد أبدًا، بل أتت بنفسها مستحضرة مادّيتها التامة "نرجيلة، مترو، مرايا، مستنقع...". هذه الماديّة التي تعطي لواقعية النصوص موضوعيّتها التامة وتنقلها دون تدخّل سافرٍ من الشاعر، وتصوّر فقط نحو العامة دون طرق أبواب الطبقات النخبوية في عوالم النص، ولعلّ القاهرة كانت أرضًا خصبةً لعاطف ولغيره من الأدباء المصريين الذين سبقوه كنجيب محفوظ ويوسف إدريس وإبراهيم أصلان.

اقرأ/ي أيضًا: أمجد ناصر.. وصول الغريب

من الممكن القول إن الشعر له ذلك الأثر على النصوص والسرد أيضًا، فتصدير الغلاف بكلمة "شعر" ليس إلا احتمالًا من اثنين، فقد يكون الكتاب مجموعة شعرية بلغةٍ قصصية، أو مجموعة قصصية بلغةٍ شعرية، كل هذا يقودنا لاستعادة الحديث الطويل حول الشعر وقدرة قصيدة النثر على التقولب بأيّ قالبٍ أدبي وتشريع هذه التسمية لها، وعلى جولةٍ ديالكتيكية جديدة في الشعر وأشكاله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ناجي رحيم.. لعبة أرشفة الخوف

الموبايلات تكتب أدبًا