07-فبراير-2025
قيصر سوريا

(GETTY) قيصر متنكرًا بسترة زرقاء خلال جلسة أمام الكونغرس الأميركي

بعد سنوات عديدة من الغموض، خرج قيصر، المصور الذي وثق آلاف الجثث التي قُتلت تحت التعذيب في السجون السورية، كاشفًا لأول مرة عن وجهه وهويته الأصلية، في مقابلة تلفزيونية جاءت بعد شهرين فقط من سقوط نظام الأسد.

وسرب المساعد أول فريد المذهان، الاسم الحقيقي لقيصر، من شرطة دمشق العسكرية نحو 55 ألف صورة جمعها بين العامين 2011 و2013. صور كانت شاهدة على وحشية ممارسات النظام السوري التي وصفها بـ"آلة قتل لا تنتمي للبشرية".

ولم يكن هذا الظهور مجرد كشف عن شخصية بقيت سرية لسنوات، بل كان إعلانًا يحمل أبعادًا سياسية، قانونية وحقوقية تتجاوز شخص قيصر نفسه، مما يجعله وتوقيت هذا الخروج، لحظة مفصلية في مسار العدالة الانتقالية في سوريا.

السر في التوقيت

لطالما ظل قيصر شخصية غامضة، تحيط بها السرية لضمان أمنه الشخصي وحماية قضيته من الاستغلال السياسي. ورغم أن الجميع كان متأكدًا من أن قيصر يعيش خارج سوريا، وأن دولًا ومنظمات تشرف على حمايته، إلّا أنه لم يكشف عن هويته. والجميع في لحظة السقوط أو الأيام الأولى على الأقل، توقع ظهور قيصر في أية لحظة، حيث أن من كان يهدده قد سقط، ولم يعد هناك تهديدًا مباشرًا على حياته.

لم يكن ظهور قيصر مجرد كشف عن شخصية بقيت سرية لسنوات، بل كان إعلانًا يحمل أبعادًا سياسية، قانونية وحقوقية تتجاوز شخص قيصر نفسه، مما يجعله لحظة مفصلية في مسار العدالة الانتقالية في سوريا

مع هذا كله، فإن ظهوره في هذه الأيام، وبعد سقوط نظام الأسد بفترة وجيزة، أثار العديد من التساؤلات، خاصة أنه جاء في مرحلة حساسة من تاريخ سوريا، في مرحلة كتابة تاريخ جديد لسوريا بالظبط.

تفسيرات كثيرة

قد يكون ظهور قيصر في هذا التوقيت محاولة منه لإعادة وضع قضية المعتقلين في قلب النقاش الوطني والدولي، وضمان عدم تجاهلها في عملية إعادة الإعمار والمصالحة، خصوصًا في ظل انشغال القوى السياسية بإعادة ترتيب المشهد السوري.

كما أن ظهوره قد يكون جزءًا من جهود قانونية تمهيدية لدفع المجتمع الدولي والحكومة السورية الجديدة نحو محاسبة المتورطين، خاصة في ظل وجود دعاوى مفتوحة ضد مسؤولين أمنيين في النظام السابق.

ويتمنى السوريون أن يكون ظهور قيصر اليوم، خطوة أولى وحقيقية في خطوات البناء ورفع العقوبات التي تضرر منها الشعب السوري أكثر مما تضرر منها النظام السابق وشخصياته.

اللحظة المناسبة

طوال السنوات الماضية، كان إخفاء قيصر لهويته ضروريًا، فإعلانه عنها في ظل حكم الأسد كان يعني الملاحقة أو التصفية، رغم أن هناك عدة تقارير وصور انتشرت، تفيد بأن النظام السابق كان يعرف هوية قيصر. كما أن إبقاء هويته مجهولة ساهم في الحفاظ على مصداقية قضيته، حيث بقيت الصور والتوثيقات التي سربها هي الأدلة الأساسية دون أن تتأثر باعتبارات بأية شخصية.

بالتالي، فإن كشفه لهويته الآن يخدم قضية العدالة لأنه يعزز مصداقية الأدلة التي قدمها، الأمر الذي يجعل من شهادته أداة أقوى في أي محاكمات مقبلة. على الرغم من أن هذا الظهور قد يعرضه للخطر، حيث لا تزال هناك أطراف متورطة في الجرائم السابقة قد تسعى لاستهدافه أو تشويه صورته.

أمل جديد وورقة ضغط

كان لظهور قيصر تأثير كبير على عائلات المعتقلين، حيث منحهم الأمل في الحصول على إجابات حول مصير أبنائهم. كما شكّل ضغطًا على الحكومة السورية الجديدة لإعطاء الأولوية لهذا الملف، وأعاد قضية المعتقلين إلى الواجهة الدولية، مما قد يدفع إلى تحقيقات أكثر جدية حول مصيرهم وإنشاء محاكم وطنية لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب.

أما من الناحية القانونية، فقد يدفع هذا الظهور المحاكم الدولية إلى تسريع قضايا محاكمة المسؤولين السابقين في النظام السوري، خاصة في الدول التي بدأت إجراءات قانونية ضدهم، مثل ألمانيا وفرنسا.

وقد يساهم ويدعم جهود دولية للمطالبة بإنشاء لجنة تحقيق حول المعتقلين والمفقودين، ودعم محاكم وطنية ودولية لملاحقة المتورطين في الجرائم. في الوقت ذاته، قد تستغل بعض الدول ظهوره لمنع أي تطبيع سريع مع سوريا دون ضمانات للعدالة، بينما قد تستخدمه بعض الجهات كورقة ضغط على الحكومة الجديدة لإجبارها على اتخاذ إجراءات قانونية صارمة ضد رموز النظام السابق.

محاولات تشويه

ليس من المستغرب أن يواجه قيصر محاولات لتشويه سمعته أو التقليل من أهمية الوثائق التي سربها أو دورها في الثورة السورية. حيث من المتوقع أن تحاول بعض الشخصيات الأمنية السابقة نفي مسؤوليتها عن الجرائم، أو الادعاء بأن قيصر كان جزءًا من حملة إعلامية ضد النظام، فيما قد تحاول جهات أخرى تبرير الانتهاكات على أنها حالات فردية وليست سياسة ممنهجة.

وقد انقسم الشارع بالفعل، فقد رحب معظم المعارضين للنظام السابق بظهوره واعتبروه لحظة تاريخية تدعم جهود العدالة الانتقالية وفرصة لتحقيق المحاسبة، فيما كان هناك من شكك في دوافعه واحتمالية انحيازه لطرف ما ولحظة ظهوره.

وفي الوقت الذي ركز فيه الإعلام الغربي والحقوقي على أهمية ظهوره كدليل على الانتهاكات الموثقة، كان هناك انقسام في الإعلام العربي بين مؤيد ومعارض. لذلك، من المهم الاعتماد على تقارير حقوقية موثوقة مثل تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، ومتابعة التحقيقات الدولية الجارية في القضايا التي تستند إلى الأدلة التي قدمها، ومقارنة التغطيات الإعلامية المختلفة وتحليل مدى التحيز في طرحها.

في النهاية، كشف قيصر عن هويته ليس مجرد إعلان شخصي أو أمر يخص فريد المذهان فقط، بل هو ملف كامل، يعنينا جميعنا نحن السوريين. ويبقى التحدي الأكبر في استغلال هذا الحدث لتحقيق عدالة فعلية لضحايا التعذيب والمفقودين، وليس مجرد شهادة أخرى في سجل طويل من الانتهاكات التي لم يُحاسب عليها أحد.