17-أكتوبر-2017

تجهيز على شاطئ النورماندي

أضاء نورُ الشمعة كاملَ الجدار الذي يتصدّر الغرفة. اعترض ضوء الشمعة في جلوسه للعشاء، على الجدار: يمدّ الظلُّ يده نحو الطعام على الطاولة، ثمّ يعيدها نحو فمه. يكرّر هذه الحركةَ حتّى يشبع. يقف الظلُّ. يحمل صحنَ الطعام بيد، والشمعةَ بالأخرى، ويتّجه إلى المطبخ. تخفت الإضاءةُ قليلًا، ثمّ تنطفئ.

تعود تدريجيًّا. الظلّ الآن جالسٌ على أريكة. يبقى جامدًا لبرهة قبل أن يقع تطوّرٌ مفاجئ: صوتٌ ملأ الغرفة! إنّه صوتُ الظلّ يفتتح الفصلَ الثاني من عرض مسرحيّ ألّفته الوحدةُ وأخرجه الليلُ. يتحرّك الظلُّ على منصّة العرض، وتنبعث في يديه وقدميه حيويّةٌ كبيرةٌ جعلتْ حضورَه يطغى على النور. علا صوتُ الظلّ وهو يسرد قصصًا عن شجاعته وقوته، وكيف تغلّب ببديهته الحاضرة على صاحب المتجر، وأفحمه بالكلام، وكيف أُعجبتْ به الفتاةُ الجميلة، وزرع على خدودها ورودَ الخجل. تنطفئ الشمعة معلنةً انتهاءَ العرض والظل في قمّةِ انفعاله.

كلَّ مساء، يبدأ العرض. قصصٌ جديدة كلّ يوم. أحداثٌ مشوِّقة، بطلُها الظلُّ الذي تحسّن أداؤه وتنوّعتْ أدوارُه. الأمس مثلًا، لعب دورَ شابٍّ قويّ يصرع رجلًا شرّيرًا، وقد شاركته في العرض الأريكة، فأدّى ظلها دورَ التابوت الذي دُفن فيه شابُّ مهزوم لعب دوره ظلُّ الكرسيّ. العرض اليوم يحكي قصّةَ حبٍّ حزينة. على الحائط -منصة العرض- ظلُّ فتاةٍ طويلة، ذاتِ جسدٍ جميلٍ يعانق الظل. استمتع بالعرض حتّى النهاية، ثمّ أنهاه بالخروج من الغرفة آخذًا النورَ معه.

وقف في عتمة المطبخ. لعن الشمعةَ التي وقعتْ من يده وانطفأ نورُها. خرج يتلمّس جدرانَ المنزل ببطء عائدًا إلى غرفته.

- كم هو غبي هذا الرجل. ألم ينتبه بعد أنك تشاركه عروضه الغبية

- إنه يسليني

- أريد أن أقتله وأعيد الهدوء إلى البيت

- لكنه يسليني.  قالها وهو يضحك.

عاد صاحب الظل من حيث أتى، وجثا على ركبتيْه. بحث عن الشمعة وهو يرتجف خوفًا. أشعلها وعاد إلى الغرفة، فلم يجد أحدًا.

*

- ماذا بك؟ ألم تنم البارحة؟

- أريد أن أستشيركَ في أمر.

- تبدو قلقًا. ما الأمر؟

قصّ على صاحب المتجر ما جرى في الليلة السابقة. نقل إليه معظمَ الحوار الذي دار في الغرفة، وأخبره أنّه لم يغادر المنزلَ لأنّه خاف أن يعلم المتحدثين أنّه علم بوجودها، وأنّه أبقى الشمعة مضاءةً وظلّ طوال الليل صاحيًا وإنْ كانت عيناه مغلقتين حتّى لا يشكّا في أمره، وأنّه خرج من المنزل عند طلوع الفجر، وهو الآن لا يدري ماذا يفعل.

في المساء مرّ على المتجر رجلٌ عجوز، وكان صاحبُ المتجر قد قصّ عليه حكايةَ الأجير، فذهب معه إلى منزله ليساعده في حلّ مشكلته.

- أين الغرفة؟

سأل العجوز بصوت واثق، فأشار إليها بيدٍ ترتجف.

- تمالكْ نفسك.

- دعنا نغادر. لقد غيّرتُ رأيي. أفضّل العودة إلى المتجر.

- وماذا لو تبعوك إلى المتجر؟ تعلّقُهم قد يكون بك، لا بالمنزل. دعني أقوم بعملي.

استخدم العجوزُ كلَّ خبرته: قرأ التعويذات؛ حرق غابةً من البخور؛ ولم يعثر في الغرفة على أحد؛ لم يسمع صوتًا غير صوته يقرأ التعويذات. وتشكّلتْ لديه قناعةٌ بأنّ هذا الأجير يهلوس، وأنّ الوحدة قد فعلتْ بعقله فعلَها. قبل أن يعود إلى بيته قال: "أنا متأكّد أنّ أحدًا غيرك لا يعيش في هذا المنزل. أنصحك بألّا تبقى وحيدًا. ابحثْ عن امرأة وتزوّجها. افعلْ ما تشاء. المهمّ ألّا تبقى وحيدًا، كي لا تفقد ما تبقّى لك من عقل."

برغم امتعاضه من كلام العجوز عن عقله، فإنّه أحسّ بشيء من الاطمئنان، وأنّه استعاد بيته الذي ظنّ أنّه لن يراه ثانية؛ ألم يطمئنْه العجوزُ إلى أنّه وحيد تمامًا هنا؟!

*

جلس يتناول عشاءه بسعادة كبيرة، تزيد عن فرحته أوّلَ مرّة دخل فيها هذا البيت. تراقص نورُ الشمعة، وبدأ العرض. الظلّ ينظر نحو ظلّ الكرسيّ. "أرجوك ساعدْني يا سيّدي، إنّ أمرًا جللًا قد أصابني، وأنا في أمسّ الحاجة إلى مساعدتك." وقبل أن يجيبَ ظلُّ الكرسيّ، ولشدّة انفعاله ومبالغته في أداء دور ظلّه، تسبّب بحركةٍ من يده في إطفاء نور الشمعة. توقّف العرضُ قسرًا إلى حين إصلاح العطل الفنّيّ بعود الكبريت الموجود في المطبخ.

 انبعث صوتٌ من عتم الغرفة

- يبدو العرضُ جيّدًا اليوم، أرجو ألّا يكون متّصلًا بعرض البارحة، فلم يتسنَّ لي حضوره وأنا أيضًا. أجاب صوت الآخر

لم يطل الحوار؛ فقد عاد الشاب بسرعة ليكمل عرضه من حيث توقّف. "سيدي ساعدني". ثمّ جلس على الكرسيّ، وقال مجيبًا: "ما المشكلة؟" مقلّدًا صوتَ صاحب المتجر. وقف الظلّ على قدميه، وقال مستخدمًا الصوتَ الذي افتتح به العرض: "المشكلة أنّني لست وحدي في المنزل". وبدأ الظلّ يتحرك بخفّة على منصّة العرض الحجريّة، ويقول بصوتٍ عالٍ: "لقد سمعتهم يتهامسون عندما عدت إلى الغرفة دون أن أشعل الشمعة، وأنا الآن خائف من العودة إلى البيت ثانية، فماذا أفعل؟".

- اذهب إلى صديقي، وهو رجل عجوز حكيم. هو الذي سيخرجهم من منزلك.

- من تريد أن تخرج من البيت

 تجمد الظلّ.. لسماع صوت غير صوته

- لماذا لا تجيب أيها الظل..  أتريد أن تخرجنا من بيتنا

- أنت منعتني عن قتله...

- لن تقتله... ولن يخرج أحد من البيت.. سأسكنه الجدار مع ظله ليسليني في كل مرة اضأت شمعة.. قال من كان ظله قد التهم ظل الشاب.

في صباح اليوم التالي انتظره صاحبُ العمل طويلًا، ولم يأت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ديريك.. حين تروي الجدران قصة مدينة

كعشٍّ في مدخنةٍ شتويّة