ظاهرة كتب السيرة بين الرغبة الحقيقية في التوثيق والهروب من قسوة الحاضر
6 أكتوبر 2025
من الظواهر الملحوظة في عالم النشر عبر السنوات العشر الماضية، انتشار كُتب السيرة على نحو ملحوظ، حيث بدأت دور النشر تخصّص لها مساحة خاصة، وتعتمد عليها في جذب شرائح مختلفة من جمهور القُراء.
حظيت دور النشر المصرية – على وجه الخصوص – بنصيب الأسد من حيث الكم والكيف في هذا الشأن، فعدد الكُتب المعنيّة بالسيرة التي تطبعها الدور المصرية يفوق ما تطبعه دور النشر العربية الأُخرى. ومن خلال جولة بسيطة على منصّات القراءة أو رفوف المكتبات وصفحات دور النشر العربية، يُمكن للقارئ أن يلاحظ بسهولة تواجد عناوين هذه الكُتب بشكل منتظم سواء في مواسم معارض الكتاب أو خارجها. بل قد يندهش القارئ أيضًا من ملاحظة أن بعض الدور النشر، وخاصةً المصرية قد تخصّصت في نشر هذا اللون من الكتابة. وبطبيعة الحال، تتنوّع هذه الكتابات ما بين مذكراتٍ وسيرة ذاتية أو سيرة غيرية أو ذكريات مرويّة.
تتفاوت هذه الكتابات في محتواها بين الغث والسمين. فعلى الرغم من الانتشار الملحوظ لهذا التصنيف الكتابي، فإن قِلة من هذه الأعمال تتحقق بها جودة عالية من البحث والتوثيق. فالحصول على الوثائق وشراء الأرشيف، ليس بالأمر الهيّن في ظلّ الظروف الحالية التي تشهد ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الورق والمجلات القديمة والأشياء النادرة. صحيح أن هناك بعض المنصّات والمؤسسات التي بدأت في طرح أرشيفاتٍ مختلفة بالمجان إلى غالبية القُراء، لكن نسبة هذه المواد تظلّ محدودة إذا ما قورنت بأسماء الصُحف والدوريات التي اعتادت نشر أخبار الأدباء والفنانين وما يتصل بهم. لذلك، يتضّح أن نسبة لا بأس بها من هذه الأعمال، لا زالت تفتقر إلى معايير التوثيق والإلمام بالمعلومات التاريخية من مصادرها الأصيلة. وقد يُفاجئ القارئ من وجود أكثر من مؤلَف للكاتب ذاته في فتراتٍ زمنيّة متقاربة عن شخصيات فنية تحتاج الكتابة عنها إلى رحلة ممتدة ومضنيّة من التنقيب والبحث!
رواج كتب السيرة التي تجذب شرائح متنوّعة من القُراء، يجب ألا يعطي مؤشرًا سلبيًّا تجاه الركض نحو الاستسهال والتسرع في النشر، وإنما يقتضي التأنّي والبحث في أكثر من مصدر موثوق منه عن المعلومة
يُلاحظ أن أغلب الذين تصدّوا لكتابة السيرة في السنوات الأخيرة، كانوا من أهل الصحافة. فهذا بطبيعة الحال من مقتضيات المهنة، حيث أُتيح لهم إجراء سلاسل حوارية أو مقابلات منفردة مع أهل الفن والأدب مما يسّر مهمة جمع المعلومات المباشرة أو تجنب المشقة في تقصّي سيرة هؤلاء عبر صفحات المجلات القديمة ذات الورق الأصفر. فبعد رحلة مديدة في عالم الصحافة، قاموا بجمع ما نشروه أو سجلّوه على أشرطة كاسيت من لقاءات ومقابلات مع شخصيات بارزة، ليعيدوا طباعتها في كُتب من جديد. والحق أنه ينبغي التعامل بحرص مع مثل هذا الشكل من الكتابة والتوثيق لأسباب عدّة تتلخص في المصداقية وقوة الذاكرة. فقد يقود الفنان أو الكاتب الحوار في اتجاهٍ وحيد، ويلجأ إلى إخفاء بعض الحقائق التي لم يكن ليخجل منها سابقًا، أضف إلى ذلك ضعف الذاكرة البشرية، والتي تفلت منها بعض التفاصيل الدقيقة أو البعيدة بُحكم التقدم في السن.
ولذلك فإن رواج كتب السيرة التي تجذب شرائح متنوّعة من القُراء، يجب ألا يعطي مؤشرًا سلبيًّا تجاه الركض نحو الاستسهال والتسرع في النشر، وإنما يقتضي التأنّي والبحث في أكثر من مصدر موثوق منه عن المعلومة. فكلّما تنوّعت المصادر، كلما كانت النتيجة أدق، بالإضافة إلى ضرورة الرجوع إلى الأرشيفات والصحافة المرتبطة بهذه الواقعة أو تلك. فلا يصبح الاعتماد على صوت مفرد في الحكاية، هو أساس العمل المكتوب. ولا يظنّ القارئ أن هذه المسألة تتعلّق بدأب الكاتب فقط، وسعيه نحو التقصي والتحقق من كل المعلومات، وإنما أيضًا بمسئولية الناشر الذي يتوّجب عليه التأنّي قبل نشر كُتب السيرة وإعداد لجنة قراءة متعددة المشارب الثقافية والفكرية؛ تضم بين أعضائها بعض المتخصّصين الذين يمتلكون باعًا وخبرة في تلك الكتابات وما يتصل بها. فهل من الصواب أن يُعرض كتاب يدور حول سيرة مطرب أو ممثل أو مخرج سينمائي أو ملّحن على روائي أو ناقد أدبي، ليقول رأيه فيما ورد به من معلوماتٍ فنية أو تاريخية تخصّ هذا المبدع دون غيره؟ والعكس صحيح.
تختلف طبيعة التلقي لهذه الأعمال من قارئ لآخر، فقد رأى البعض أن السبب وراء انتشار الكتب السيرة إنما يعود إلى الحنين الجارف نحو الماضي والنوستالجيا التي يتشبع بها الكاتب نحو ذكريات أو أحداث لم يعشها على الأغلب. بينما يرى آخرون أنها محاولة للهروب من واقع الحياة اليومية القاسي بكل ما فيه من قمع وحروب وهزائم. وهناك فئة من القُراء يرون فيها مجرد محاولة عفوية لتسليط الضوء على المنجز الفعلي لهؤلاء المبدعين، والذين لم ينل أغلبهم ما يستحق من الكتابة والاهتمام.
لا ريب أن ظاهرة انتشار كتب السيرة هي من الظواهر المحمودة في محيطنا الثقافي والفني العربي، لكن لا نظن أن المبادرات الشخصية أو الخاصة وحدها كافية، فلا بد من وجود سلاسل مختصّة في نشر هذه الأعمال من قِبل دور النشر الحكومية. وكذلك الحرص على إعطاء الفُرصة لكتب السيرة التي تستحق النشر وتخضع لمعايير نشر واضحة، بالإضافة إلى تخصيص عدد من الجوائز لها إلى جانب جوائز الرواية والشِعر حتى يتطور مستواها تدريجيًّا، وتصبح في متناول الجميع.