30-يناير-2016

من السهل تبين تدهور المستوى التعليمي لطلاب مصر(هونغ يو/Getty)

قبل أن يعود يوسف من المدرسة، اقتحم المدير فصله، قال للتلاميذ: "لجنة من الوزارة برئاسة مدير مكتب وزير التعليم شخصيًا في مكتبي، يطلبون إجراء اختبارات سريعة لكم، انتبهوا، أحذركم من الوقع في الخطأ، وقد أعذر من أنذر". اليوم الدراسي يقترب من نهايته، ويوسف في انتظار أن يفك المدرسون أسره ليرى الحياة، فالمدرسة بالنسبة له سجن كبير لا يريد منه أكثر من الخروج أو الهروب أو "التزويغ" من الباب، أو من فوق السور.

لا يشرح المدرس في الفصل مقابل أن يلجأ الطلاب إلى بيته لـ"تعاطي" الدروس الخصوصية، نوع من التسوّل بـ"شياكة"، نوع من السرقة المقنَّعة

كيف يرى يوسف نفسه؟.. طالب في المرحلة الإعدادية، يكره الدروس، والتعليم، ويحب الحياة، يحاول أن يجد فرصة ليمارس هوايته الخاصة، التي هي موهبته الوحيدة: لعب كرة القدم في فترة الراحة، الشيء الذي يفصله عن العالم، ويدخله حالة لا تنقطع من النشوة.

ولماذا يكره الدروس؟.. يجيب يوسف: "لأن العصا لمن عصى، وحين أخطأ لا يسعى المدرس لتصحيح الخطأ إنما يقوم بضربي، ويستلذّ بذلك، أشعر أنه يطرح علي أنا وزملائي أسئلة صعبة لكي يضربنا، لا لكي يحسّن مستوانا الدراسي، فهو لا يهتم، ولا أحد يهتم".

ويضيف يوسف: "أنا فاشل في المدرسة، ولا أريد أكثر من درجة النجاح، ومدرس الفصل لا يريد أن نتعلم منه خلال الحصة، إنما في الدرس الخصوصي.. والغرض من الدرس الخصوصي ليس تحصيل العلم، إنما منحي درجة النجاح في أعمال السنة بالمدرسة، وتمكيني من الامتحان آخر السنة".

يفضح يوسف جانبًا من جرائم التعليم في مصر، يكشف دون أن يدري أو يلاحظ فضيحة أخلاقية تجري داخل مصر، وفي الخلفية فضيحة دراسية. الفضيحة الأخلاقية أن المدرس لا يشرح في الفصل مقابل أن يلجأ الطلاب إلى بيته لـ"تعاطي" الدروس الخصوصية، نوع من التسوّل بـ"شياكة"، نوع من السرقة المقنَّعة. ولماذا لا تتدخل الدولة؟.. سؤال إذا طرحته على خبير تعليمي، أو قانوني، سيقول: "الدروس الخصوصية مجرَّمة بالقانون، مجموعات التقوية المدعومة من الدولة فقط المسموح بها".

وهل لا تزال مجموعات التقوية موجودة أصلًا؟.. لا، فبعض مديري وناظري المدارس حوَّلوا الفصول في الفترة المسائية إلى مراكز للدروس الخصوصية، يديرونها بعيدًا عن عين الوزارة، أو الحكومة، وأحيانًا تحت عينها وبموافقتها وباتفاق بين جميع الأطراف على "تقسيم الغلة" آخر الشهر.

ولهذا السبب لا تتدخل الدولة، فالمؤامرة على مستوى عالٍ لا تبدأ من أولياء الأمور وتنتهي عند المدرسين ومديري المدارس، إنما تصل لوكلاء الوزارات، والوزراء، ورجال الدولة، ويدخل الدائرة ضباط الشرطة المسؤولون عن تنفيذ القانون، ومسؤولو الأحياء، والمناطق التعليمية، والمسؤولون عن ترخيص مراكز الدروس الخصوصية، مؤامرة على مستوى الموظفين الكبار في الحقيقة.

ومن أين تبدأ خيوط المؤامرة؟.. من الدولة، التي وضعت قوانين لتجريم الدروس الخصوصية علنًا، ولكي ترضي المدرسين سمحت لهم بها سرًّا، ومنعت الأمن من مطاردتهم، ومنعت الشؤون القانونية من التحقيق في البلاغات والشكاوى المقدمة ضد آلهة الدروس الخصوصية الذين يحصِّلون ملايين شهريًا من الطلاب، لكن لماذا؟.. لأن الدولة لا تدفع للمدرس شيئًا، أجر لا يقدر أن يعيش به أو أن يبني مستقبله، وإذا حاصرته من كل الجوانب، ومنعت الدروس الخصوصية منعًا فعليًا، كأنها تذبحه، وتقول له: "عش أنت وأولادك بألف جنيه شهريًا!".

تبدأ خيوط المؤامرة من الدولة، التي وضعت قوانين لتجريم الدروس الخصوصية علنًا، ولكي ترضي المدرسين سمحت لهم بها سرًّا

القانون يمنع الدروس الخصوصية، أما القانون الذي يأخذ دورته على الأرض إنه لا تعليم في المدارس، ولا تعليم في الدروس الخصوصية، فالطلبة يدفعون مصاريف هذه الدروس لكي ينجحوا، ينجحوا فقط. وهل يتعلم الطلاب شيئًا في المدارس أو في الدروس الخصوصية؟. يجيب يوسف: "لا، المدرس يعلمنا كيفية الإجابة على الأسئلة، يلقننا بعض الأسئلة وإجاباتها، لا نستوعب الإجابات، نحفظ حفظًا صمًا، وانتهى الأمر، وحين ندخل الامتحان نجيب عن أسئلة، ونغش في أسئلة أخرى، وبعد الخروج من اللجنة ننسى تمامًا، ننسى كل شيء". يريد يوسف أن يقول: "تصبح المعلومات والمعادلات والأرقام والحروف نسيًا منسيًا".

حين عاد المدير إلى فصل يوسف، مصطحبًا لجنة الوزارة، طرحت اللجنة أول سؤال على سلمى، طلبوا منها أن تكتب جملة من كتاب التاريخ، وهي "تركزت السلطة في يد السلطنة العثمانية"، و"فك رموز حجر رشيد".. فكتبتهما: "تركزت اصلطة العصمانى" و"فق رموس حجر رشد". «تولى الجنرال مينو حكم مصر»، جملة أخرى من كتاب التاريخ طرحتها اللجنة على الطالبة نانسي، التي حاولت فكّ طلاسم الحروف وكتبت: "تول الجينيلار ميزو حكم مصر".


التلميذة نانسي

 

في فصل مجاور لفصل يوسف، دخلت اللجنة تفحص أسماء الطلاب، ومستوياتهم، والحقيقة أنها كانت تبحث عن أخطاء، ونواياها ليست خالصة لوجه الله، طلبت من الطالبة منار أن تكتب "السلطان الذي قام بترحيل أمهر الصناع إلى الاستانة"، فكتبت: "السلطان الزى قام بمترحل امهر الثناع إلى الاستنا".


التلميذة منار

 

وهكذا كان إملاء طلاب صفوف مختلفة لبعض الجمل:

"كنت الفو سع بناحكم وبن المحكم بمحلق وطوافطم كن مهمت" بدلًا من "الشقة الواسعة جميلة ومنسقة ويوجد بها أثاث ومفروشات وأريكة".

"جلت في وق الزهيرة" بدلًا من "جلست في وقت الظهيرة".

"الموات المفجا استنول تضمير خليا الموخ" بدلًا من "أسباب الموت المفاجئ وتدمير خلايا المخ»"

هذه اللجنة لم تكن إلا مجموعة صحفيين انتحلت صفة خبراء بالوزارة، ومساعد وزير التربية والتعليم، لإجراء مغامرة صحفية تكشف سوء مستوى التعليم داخل المدارس، وصوَّرت إجابات الطلاب لنشرها في صحيفة مصرية، وكانت الصدمة في مستويات الطلاب أكثر من المتوقع، فسألوهم: "كيف ينجحون في الاختبارات بهذا المستوى"، فأجاب أحد الطلاب: "الأساتذة يجيبون بدلًا عنا في الامتحانات، ويكتبون لطلاب الدروس الخصوصية فقط، والذي لا يدفع لهم أجر الحصص لا ينجح". وأضافت تلميذة بأحد الصفوف الإعدادية: "الدروس الخصوصية تتم خلال اليوم الدراسي داخل الفصول، المدرسون يستغلون المكان، ولا أحد يراقب، والحصة بـ40 جنيه".

المدارس تتحوَّل إلى أوكار للدروس الخصوصية، والوزارة متواطئة، ومتآمرة، إن لم يكن بالمساعدة، فبالصمت. الصفر ليس غريبًا في هذه المساحة البائسة داخل مصر، والأخطاء الإملائية تحديدًا أصبحت طقسًا معتادًا لدى وزارة التربية والتعليم، تبدو في بياناتها، وخطاباتها، وتصاريحها، فلماذا لا يحصل الطلاب على صفر في اختبار إملاء؟

إذا كان الشربيني الهلالي، وزير التعليم، قد حصل على "صفر" عن كتاباته على فيسبوك. كان يكتب: "يا صديقي بلاش تعزب نفسك" و"جمال المرأة وعزوبة طلتها لا تكتمل بالوصول إلى سن معين"، و"أحمد منصور، مزيع قناة الجزيرة"، يكتب "مزيع" بدلًا من "مذيع"، ويستبدل "عزوبة" بـ"عذوبة"، ويضع "تعزب" مكان "تعذب"! لا الوزير، ولا الطلاب، التعليم في مصر كله "صفر كبير" على الشمال.

عينة من كتابات التلاميذ:


 

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الدروس الخصوصية تجارة مربحة في الجزائر

الدروس الخصوصية.. هوس طلاب الثانوية العامة في غزة