10-سبتمبر-2019

طفل عراقي في كربلاء 2006 (Getty)

1

أبعد ما يمكن أن تصل إليه ذاكرتي، الفيضانُ وقد اجتاح مناطق خلف السدّة، لم أرَ الفيضان ولا السدة، لكني ابن السنوات الخمس رأيت بعض الفارين خفافًا وثقالًا منه، عوائل وأفرادًا كانوا يأتون من شرقيّ مدينة الثورة "مدينة الصدر الآن" متجهين غربًا إلى مكان مبهم، اختلط كلّ شيء الآن بحيث لا يبدو شيء مؤكدًا سوى أن نهرًا ما فاض وأغرق بيوت أناس فروا بجلودهم، رأيت بعضًا منهم، الشيء الآخر الذي تستطيع ذاكرة الطفل التيقن منه أن رجلًا واحدًا من بين الحشود التي اخترقت المدينة، دخل بيتنا في قطاع 29 ، وكان هذا الرجل الإمام المهدي.

أو على الأقلّ هذا ما ظنه أهلي وسرى ظنهم بين الجيران.

رجل أربعينيّ ملتحٍ بعقال وكوفيةٍ طرق الباب وطلب أن يستريح قليلًا، لا أستعين هنا بذاكرتي بل برواية أهلي التي سيكررونها مرارًا وعلى مدى سنين، كلّ شيء طبيعيّ لولا أن الرجل لم يأكل شيئًا مما قُدّم بين يديه ولم يشرب ماء، ظنوا أنه إنما أراد الدخول ليقضي حاجة، لكنه لم يفعل، كلّ ذلك يمكن تفسيره، لكنّ اختفاءه فجأة دون أن يفتح بابًا أمر كافٍ لتشرع أمي وأختي الكبرى بالصلاة على محمد وآله، ولينتشر في الزقاق وما حوله خبر زيارة المهديّ لنا مع حشود الفيضان.

ليس هذا خبرًا عابرًا، انه أقدم خبرٍ تحتفظ به ذاكرتي، لأن ذاكرة تبتدئ بـ"معجزةٍ" كهذه، لن يقيّض لها الإفلات من المعاجز أبدًا.

 

2

كان سكّان مدينة الثورة آنذاك ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: شيوعيون، ومتدينون، وبعثيون وهم الفئة الأقلّ، فئة مكروهة لكنْ مرهوبة الجانب يتقي الناس شرها، عائلتي كانت من الصنف الثاني، عائلة متدينة، والأب كان ملّا، يقرأ في المجالس الحسينية المقتلَ في عاشوراء وسواها من المناسبات الشيعية، كنتُ غالبًا ما أذهب معه إلى هذه المجالس، خصوصًا حين يكون المجلس هذا قريبًا من بيتنا، لا شيء يمكنني أن أتذكره دالًا على سطوة الأب أكثر من صورته وهو يعتلي المنبر ويُبكي هذا القدر من الرجال، "والنساء اللواتي كانت أصوات تفجعهنّ تأتي من وراء الأبواب"، قوّة كلماته وسطوة أدائه ظلتْ مهيمنة في خاطري علامة لن تنمحي على سلطان غامض يمتلكه هو وحده، به يقدر أن يجرد الرجال من هيبة وكبرياء واتزان كانوا يتحلون بها قبل قليل ليجعلهم ينوحون ويصرخون كالثكالى على شيء لم يكن واضحًا في ذهني، لكنه أمر عظيم ولا شكّ هذا الذي يضطرني إلى البكاء أخيرًا، بكاء عدوى، مجاراةً لهذا الجمع الباكي.

 

3

تحوّل كلّ ذلك إلى شعر. حين مات الأبُ كنت لم أزلْ طفلًا بعدُ، كوابيس كثيرة كان يحجزها سدّ منيع، وبانهيار ذلك السدّ امتلأت حياتي بأشدّ أنواع مخلوقات الأحلام إزعاجًا، كائنات قبيحة لا أظنّ أن لها فائدة في هذا العالم سوى احترافها ازعاجي، عاطفة الطفل المشبوبة اغتذتْ بالخوف وبكلّ ما يثير البكاء، ولست أعرف حقًا كيف كان سيُصرف كلّ هذا المقدار من الرعب والحزن لو لم أصبح شاعرًا، أين كنت سأذهب بالنساء منثورات الشعر ينحن على كربلاءاتهنّ؟ أين سأتوجه بإيقاع ردحهنّ على شابٍ كفلقة القمر قُتل يوم عرسه؟ لمن كنت سأدخر الكآبة البهيجة لليلة العاشر من عاشوراء؟ خوفي من الشمر "هل كان الشمر رفيقًا حزبيًّا؟"، حزني على كفّيْ أبي الفضل العباس، العطر القويّ للآس والحناء في صينية القاسم، الروائح اللذيذة لنساء يجلن على البيوت لاطمات حتى يهدّهن التعب، البلاغة الآسرة في مقتل أبي مخنف بصوت عبد الزهرة الكعبيّ، التشابيه وتابوت الحسين الذي سقط من الجموع فظهر أنه فارغ، اللباس الأحمر لأتباع يزيد، والأسود لنا ولأصحاب الحسين، السبايا كاسياتٍ يسوطهنّ شابٌ رسم شواربه ولحيته بالفحم، يضربهن ويضحكُ، العليلُ الذي يطلب ماء فتأتيه النسوة باكيات بماء ويفسدن المشهد، الأطفال السبايا ذوو اللباس الأخضر "كنت أحدهم؟"، أين سيُصرف كلّ ذلك إلا بالشعر.. الشعر وحده؟

كانت تدابير مبهمة تجعل كلّ ذلك موجهًا ضدّ الحكومة، يقبض على البعض، تمنع التشابيه بعد ذلك، ثم في سنوات لاحقة تمنع المجالس الحسينية، يمنع الطبخ، هذا المنع أساس في تشبث الذاكرة بهذا الكرنفال، إذ أن شيئًا تخاف منه الحكومة وتمنعه سيتلقفه جيل كامل كعلامة رفض.

 

4

بعد سنوات طوالٍ كتبت في قصيدة "بابل مقلوبة" هذا المقطع:

 

ومالي لا أضحكُ؟

أضحكُ لهذه الصنائعِ الشاقّة:

أضحك لنافخِ البوقِ تحتَ خرائبِ بابلَ،

أضحكُ للغيم الأبيضِ يتوّجُ قلبَ ميديا بلا سبب،

أضحك لصبيةٍ لم يقلْ لهم أحدٌ أنهم شيعةٌ لكنهم تنبأوا بذلك،

أضحكُ لمعدان يحرثون أكتافَ نسائهم حزنًا على ثأرٍ لم يبلغوه،

أضحكُ لمندائيينَ يخرجون من خيمة الاجتماعِ وعلى أيديهم دمٌ لا يعرفون لمَنْ،

أضحكُ لانكشاريةٍ يربطون خيولهم إلى رأسِ الملكِ كوديا،

أضحكُ لكلدان لم يجدوا ما يتصدقون به، ملأوا آبارهم خلًا وتفرّقوا في الأقطار،

أضحكُ لعشائرَ أوقفتها خطيئتُها في ظلِّ شرطيٍ يتثائبُ،

أضحكُ على ناصر الأشقر

على قلائده المصكوكة من أسنان العبيد،

أضحكُ

وأعرف أن شعبًا أحدبَ سوف يتسلّلُ اليَّ

في هذه الساعةِ

ليشاركني البكاء.

 

لم أفاجأ كثيرًا حين انتبهتُ في لحظةٍ ما ـ بعد نشر النصّ طبعًا ـ أن هذا المقطع لم يكنْ لي بالكامل، إنّ فيه سياقَ وتركيبَ جملٍ لعلي بن الحسين السجاد في دعائه المسمى بدعاء أبي حمزة الثمالي:

 

وَمالي لا أَبْكي

أَبْكي لِخُروجِ نَفْسي،

أَبْكي لِظُلْمَةِ قَبْري،

أَبْكي لِضيقِ لَحَدي،

أَبْكي لِسُؤالِ مُنْكَر وَنَكير اِيّايَ،

أَبْكي لِخُرُوجي مِنْ قَبْري عُرْيانَ ذَليلًا حامِلًا ثِقْلي عَلى ظَهْري.

 

5

ليس هذا غريبًا، بل الغريبُ ألّا تنبجس "في لحظات الكتابة حيث يمدّ اللاوعي يديه الطويلتين ليستخرج كنوزنا المطمورة". جمل كهذه تعيد عليّ ذكرى النصوص الأولى التي ملأت مسامّ روحي، لم أفاجأ أني في كثير من قصائدي استعرتُ صوتًا يأتي من هذه الأعماق الدفينة، إيقاعًا جنائزيًا زاده قوة اختلاطه بروائح وألوان لا تمحي. لا شيء في ذاكرة الطفل، أي طفل، أقوى وأكثر تأثيرًا من الكرنفال، وليس لشيعة العراق سوى كرنفال عاشوراء يعيدونه كلّ عامٍ، ولا أحمل في ذاكرتي أثقلَ ولا أغنى من هذا الأثر الذي سيكشف عن نفسه في نصوصي في غفلة مني، وبطرائق تثير استغرابي أحيانًا، كيف يمكن للاوعي أن يكون على هذا القدر من الاحتيال؟

 

6

قصيدتي "أرباب جمشيد" تبدأ بالجملة التالية:

الحقيقة أنهم أنزلوه الى حفرته وهو يتمتم: ما طبكم.. ما دواؤكم؟

كانت الجملة "والقصيدة كلها" عن موت الأبّ الذي يترك فوضى واختلاطًا وكوابيس، موته يماثل في القصيدة موت النظام وحلول الكاوس، لكن عبارة "ما طبكم.. ما دواؤكم" مستعارة من خطبة لعلي بن ابي طالب، يؤنب فيها أتباعه عن تقاعسهم في تنفيذ أوامره:

 

"ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم. أقوالًا بغير علم! غفلة من غير ورع! وطمعاً في غير حق".

 

وصلتْ العبارة إلى هذه القصيدة التي أردت فيها تصوير أبٍ يدخل حفرته وهو يعاتب أبناءه، ربما دخلتْ تلقائيًّا لأنها اقوى جملةٍ أحتفظ بها في لا وعيي لأب يؤنب أبناءه الذين انتهوا على هذا النحو:

 

"الحقيقة أن أخته تركت ربيعها وراء ماكينة الخياطة وتبعثرت أمام المرآة تشد حجابها،

الحقيقة أن أخاه يثمر لصق الحائط ويكشف في الظل عن معتقداته

الحقيقة أن أمه تتعثر دائمًا بأباريقها

غير ان الحقيقة لا يمكن سردها ولا توصيفها

الحقيقة هي الموقف الذي يخترق نظام السرد".

 

الأبناء أنفسهم سيكونون مهتوكين "بالخطوات التي تؤرخ قيامة الضلع المحنيّ على جنين ممتحن"، ولا أظنّ أن قارئًا سيحتاج إلى كثير دراية ليعرف أن الضلع المحنيّ والجنين الممتحن مردودين إلى مرويات شيعية عن ضلع فاطمة الزهراء وجنينها، خاصة أن المقطع نفسه سيتكرر بعد صفحات على هذا النحو:" يمتحنون أبدية الثلج البائد بجنين مدمّى وضلع مكسور".

 

7

في القصيدة ذاتها، في مقطعها الرابع الذي يتحدث عن نشور يعيد الموتى:

 

لكنهم مع ذلك سيأتون كلًا بخفقانه وأسلحته:

سائق الرعد إلى الشرفات الواطئة فلا تتفقس الأجساد إلا بأذنه سيأتي

رومان فتان القبور سيأتي

وسيأتي الغرقى الهاطلون مع المطر

والهائمون في الحدائق الضائعة مع أطفال ضائعين..

 

ربما لم يذكر أيّ نص إسلاميّ اسم هذا الملاك "رومان" سوى دعاء في الصحيفة السجادية "في الثناء على الملائكة"، ويصف الدعاء هذا الملاك أنه فتّان القبور:

"ومَلَكُ المَوْتِ وأعْوانِهِ، ومُنْكَرٍ ونَكيرٍ، ورُومانَ فَتَّانِ القُبُورِ، والطّائِفِينَ بِالبَيْتِ المَعْمُورِ، ومَالِكٍ والخَزَنَةِ ورِضْوانَ وسَدَنَةِ الجِنان".

 

8

سميتُ مجموعتي الأولى التي صدرت عن دار "ألواح" بإسبانيا عام 1999 "عقائد موجعة"، وبعد عشر سنوات بالضبط آثرتُ أن أجمع مختارات من شعري منذ 1983 وحتى 2003 ، أصدرتها عن دار الشؤون الثقافية ببغداد، وسميتها بالعنوان ذاته، ولو قدرتُ أن أجعل هذا العنوان لازمًا لكلّ كتاب شعري يصدر لي لفعلتُ، أولًا لأنني أشعر ان ما أكتبه هو في حقيقة الأمر قصيدة واحدة بأجزاء متعددة، وثانيًا لأن كل ما كتبته يجد له مرجعًا لا تتستر النصوص عليه، مرجعًا مؤداه محاكمة العقائد التي اختزنتها طوال فترتي الدينية ودراستي في الحوزة "درست العلوم الدينية في مدينة قمّ الإيرانية بعد فراري من العراق، لكني كنت درستها قبلًا بشكل شخصيّ من خلال قراءاتي الكثيرة منذ الطفولة". في صباي كنت درستُ الأصول "دروس في علم الأصول للسيد محمد باقر الصدر"، والمنطق للشيخ المظفر، وعقائد الإمامية له أيضًا، إضافة إلى النحو والصرف والتجويد، أي كلّ أساسيات ما يجعل مني رجلَ دين شيعيًّا تقليديًا، لكني لم أصبح كذلك، ربما بسبب الشعر وحده.

 

9

في الشعر جوهر رفضٍ، وجرثومةُ مخالفةٍ للسائد والشائع والمكرر، فيه أيضًا مغالبة للمنصوص عليه، وتحدٍّ للقيم المهيمنة دينية أم سياسية أم اجتماعية، وهو ما كان يضع بيني وبين التديّن الرسمي جدارًا من نارٍ لم أكن أجرؤ على تخطيه، فإذا كان في التشيّع رفضًا ما، هو الذي وسم الشيعة باسم الروافض، فأعتقد أن هذا "الرفض" الذي في التشيّع هو كلّ حصتي من التشيّع، وأنه هو الذي كان محرضي يومًا ما على الانغماس في قراءة النصوص الشيعية وتأريخ التشيّع والاهتمام بمسألة المهدي المنتظر، نشرتُ بحثًا مطولًا في مجلة "الموسم" عنوانه "تأريخ المستقبل" عن انتظار الإمام المهديّ وظهوره، وفيه أن الشيعة يحكمهم تأريخان: تأريخ الماضي الذي يبتدئ بظلامة الإمام عليّ والمعصومين من ولده، وتأريخ المستقبل الذي يبتدئ بظهور المهديّ وهو تأريخ مفصل وأكثر سعة من التأريخ التقليدي سوى أن وقائعه لم تحدث بعد!

تأريخان: تأريخ الظلم الواقع، وتأريخ الثأر ممن سبّبه. ولست أفهم شعارات "يالثارات الحسين" أو "يا ثأر الله وابن ثأره" إلا في ضوء هذه الفكرة، يطلب الشيعة ثأرًا لهم، لكنهم لا يعرفون على وجه التحديد لمن يتوجهون لأخذ الثأر، تتغيّر الوجوه والأسماء لكن طلب الثأر باقٍ على حرارته غضًا جديدًا، وفي ذلك مكمن خطورته، إذ يمكن لكلّ فكرة مخالفة أو شخص مخالف أن يكون مادة لثأر الشيعيّ الذي يحمله على ظهره وهو يدور باحثًا عن خلاص.

 

10

هذه عقيدة موجعة، الألمُ فيها لا ينتهي لأن الثأر فيها لا ينتهي هو الآخر، الثأر دائمًا وأبدًا عمل غير منتهٍ، لا أحد يستطيع استيفاء ثأره، ثمة شيء ضائع لا يسترده سفك الدم، دمنا الشخصيّ في التطبير أو دم غيرنا في تطبيرنا للآخرين "أيام الحرب الأهلية العراقية حدثتْ فظائع تبين مدى ما يمكن أن يفعله الثأر المقدّس". الثأر عمل ناقص دائمًا، إذ الخلاص مشكوك به حتى لو نصتْ عليه النصوص، والمنقذُ يأتي متأخرًا وبلا أمل، دائمًا يأتي المنقذ قبل أو بعد أن نحتاجه، لا يأتي في موعده تمامًا، هذه خلاصة ألم آخرٍ يعذب كل منتظري الخلاص.

 

11

عقائدنا مؤلمة، هذا استنتاج دفعتُ عمرًا كاملًا لأصل اليه، لم أكنْ فيه مراقبًا أو خارج الحشد، بالعكس، كنتُ جزءًا من المشهد، آمنتُ بما آمن به كلّ شيعيّ تقليديّ، اتشحتُ بالسواد مرارًا، لطمتُ على فقد شيء عزيز مبهم، نحتُ على كربلاءاتي الكثيرة، وانكببتُ لاحقًا في شعري أحاول فهم ما يجري، ومعرفة ما حدث لي "لنا"، ما الغريب الذي فينا الذي يجعلنا غرباء؟ وكما أن الشيعي لا حاضر لديه في الحقيقة، لديه تأريخان واحد للماضي المؤلم وآخر للمستقبل الذي يريد به مسح الوجع، ولا تأريخ للحاضر، كان لي أنا أيضًا تأريخان شخصيان ليس من بينهما الحاضر وشؤونه، لهذا كانت قصيدتي "كربلاء الوقت" التي تضمنتها مجموعتي "جنة عدم" الصادرة عن "دار الساقي" بلندن، قبولًا كنائيًا لهذا الدرس الشيعيّ الذي ملخصه أنْ لا وجود لحاضر:

كلما استجمعتُ رعبَ قلبي وقلتُ بالحاضرِ الدافقِ أَجْلُوْهُ، بالينبوعِ الذي وُلدَ اللحظةَ معي، رأيتُ أني جئتُ من قبلُ أو من بعدُ وانْ لاوقتَ لي يصلحُ أنْ أسميه الآن.

فالآنَ فواتُ أوانٍ.

 

في قولي "جئتُ من قبلُ أو من بعدُ" إشارة إلى هذا التمزق ذي الجذر الشيعيّ في ضرورة انتظار مخلص، لكنْ أيضًا في معرفة ان أيّ مخلّص لا يأتي في أوانه، زمن الخلاص هو زمن فوات الأوان:

وإذ تهيّأتُ وتعبّأتُ وقامتْ قيامتي ألقيَ في روعي أني من الأمسِ، من الديمومةِ التي غُسِلَتْ حتى صارتْ مِزَقًا،

من القديم أتيتُ، وفي القديمِ باشرتُ زمنًا كنتُ أظنّه الآنَ فإذا هو منقلبُ الوقتِ ويأسُ الحاضرِ من نفسهِ، وعجزُه عن أنْ يكونَ.

 

نحن من أمس، لكن هذا الأمس المعاد والمكرر والذي يراد بعثه كل حين غضًا جديدًا، الأمس المغسول حتى صار مزقًا، يعجز عن أن يكون حاضرًا، إنه منقلب الوقت. في هذا التمزق أجد كربلائي الشخصية.

تنتهي القصيدة بالمقطع التالي:

 

مهجورُ الحاضرِ أنا

أرملُ اللحظةِ

يتيمُ الأزمنةِ كلِّها

لي كربلاء، وكربلائي لا تنقضي بسهمٍ مثلّثٍ ونارٍ تأكلُ الخيامَ

كربلائي ـ الوقتُ، ماضيةٌ في حضورها وتتشبّه بالمستحيلِ

إنها كمثلِ ياقوتةِ اليأسِ تجدّد نفسها في كل آن.  

في كلِّ آنٍ فواتُ أوان.

 

 

12

 

متى حدث ان اكتشفتُ أن كربلائي تختلف عن كربلاء الناس؟ متى عرفتُ أن كربلائي الخاصة لا تنقضي وقائعها بسهم مثلث "السهم الذي اخترق قلب الحسين سهم مثلث ذو ثلاث شُعَب"، ونار تأكل الخيام "أحرقتْ خيام نساء الحسين بعد مقتله"؟ متى أيقنتُ أن الشعار الشيعي التقليدي "كلّ يوم عاشوراء" ليس دقيقًا، الأصحّ عندي القول "كلّ لحظة عاشوراء"، فكربلائي هي الوقتُ، إنها "ماضية في حضورها"، وكلمة "ماضية هنا" أردت بها الماضي الذي هو الزمن المنقضي، والماضي من المضاء كقولك عن السلاح أنه ماضٍ أي حادّ، وماضية أيضًا كقولنا مضى في الشيء أي استمرّ به، إنها متجددة لأنها الزمن نفسه، الحزن الكربلائيّ على واقعة الحسين، صار حزنًا شخصيًا على مرور كلّ لحظةٍ لا تفلح في أن تكون حاضرًا.

 

13

ذات التمزق كنت أحياه، فمن جهة: ذاكرة مترعة بنصوص التشيّع، كانت مرجعي الشعريّ المعلن، لأنها الأقرب إلى الوجدان والأشدّ التصاقًا بالعاطفة، ومن جهة أخرى: رغبة محمومة في أن أفارق هذه الذاكرة وأطلقها، كنت معها وضدها في آن، أنتج شعرًا ذا حمولةٍ رافضة لكنه يستعيدُ المخبوء في أعمق ذكرياتي من وجدٍ وحزنٍ وفقد وسواد ألفيّ هو علامة شيعية فارقة.

تمزقٌ لا حدود له أن تكون لعبتك الشعرية ومسرحك هو على هذه الدرجة من الإغراء والخطورة في وقت واحد، كنت "طفلًا لاعبًا باللاهوت" كما قلتُ في قصيدة "عنقاء المغرب" التي تبتدئ بالجملة التالية:

طفلٌ لاعبٌ باللاهوت يجادلُ عن تأريخه في شقِّ جدار.

في القصيدة ذاتها محاولة للنجاة من هذا التمزق، ادعيتُ فيها أني بعد أن رأيت الضفتين، محوت اسمي من الكتاب الذي دونت فيه أسماء الناس، أسماء أناس لن يذكرهم أحد، لأنهم متشابهون مكررون، بكربلاءات متشابهة تنتهي بالسهم والنار، قلتُ في القصيدة:

 

قـرأتُ كـتابَ أصـولِ الفـقـه

ومحوتُ اسمي من بين الأسماء.

لقد نجوتُ.

 

الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، أشعر ان في تلك القصيدة ادعاءً محضًا لا سندَ له ولا دليلَ عليه، لم أنجُ تمامًا من السهم والنار، بدليل انشغالي بهما، انشغالي بكربلاء عاشوراء لأكنّي بها عن كربلاء ضياعي، كربلاء وقتي، مروري المتكرر على الكتاب لمحو اسمي منه ربما أثبت دون أدري اسمي عميقاً فيه إلى الأبد.

مؤلم هذا، موجعة عقائد الناس وتأتي بالدم والدموع، لكن عقيدتي أشدّ إيلامًا، الطفل الذي كان يظن نفسه لاعبًا باللاهوت، سيغمض عينيه في آخر ايامه ليعرف كم كان اللاهوت لاعبًا به وبمصيره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حسن بلاسم في "طفل الشيعة المسموم".. نصوص شبعت من الانتهاك

مكتبة أحمد عبد الحسين