"طفرة" الحفريات الأثرية في المغرب.. مرحلة جديدة من الوعي الأركيولوجي
13 يونيو 2025
يكثّف علماء الآثار والباحثين المغاربة الحفريات الأثرية في مواقع متعددة على مستوى التراب المغربي، في خطوة تعكس حركية أكاديمية نوعية حول التراث المغربي بشقيه المادي واللامادي، سواء داخل جامعات البلاد أو على مستوى المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث.
وساهمت هذه الحفريات، التي تسارعت وتيرتها في الأسابيع الأخيرة، في الوصول إلى اكتشافات أثرية بالغة الأهمية، بعضها تمكن من هزّ كبرى اليقينيات في الفهم التقليدي لتاريخ الإنسان والثقافة في شمال إفريقيا على الأقل.
ثمار عمل مضني وطويل
أفاد مدير المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، عبد الجليل بوزوكار، أن "تكثيف هذه الحفريات الأثرية تتواصل للسنة الثانية على التوالي، إذ كشفت الإحصائيات التي يقوم بها المعهد، أنه بالمقارنة مع السنة الماضية في نفس الفترة، أي بين شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو، ازدادت الحفريات من 5 إلى 12 موقعًا".
وقال بوزوكار لـ"الترا صوت": "نحن الآن نجني ثمار عمل مضني وطويل جدًا بدأ منذ أربعة عقود مع تأسيس المعهد الوطني لعلوم الآثار عام 1985، وبالتالي عندما نشاهد اليوم هذا الكم من الحفريات، فهذا يعني أنه كان هناك قبل ذلك عمليات مكثفة تهم التحرّيات أو ما يسمى بالمسح الأثري، والذي يعدّ أول خطوة لإحداث الخريطة الأثرية".
كثّف علماء الآثار المغاربة الحفريات بمواقع مختلفة في البلاد، في إطار حركية أكاديمية متزايدة للاهتمام بالتراث الوطني ماديًا ولا ماديًا
وكانت وزارة الثقافة المغربية، أعلنت السنة الماضية عن إخراج أول خريطة أثرية في المملكة، في إطار جرد التراث الثقافي الوطني وحسن تدبير المعالم والمواقع الأثرية في البلاد، وهي وثيقة علمية ستساهم في معرفة هذا الجزء من التراث الوطني.
وأبرز مدير معهد الآثار، أنهم يهدفون إلى "إغناء الخريطة الأثرية الوطنية، من خلال فتح أوراش جديدة للتنقيب في المناطق التي لم تشهد تنقيبًا قط، أو المناطق التي كان فيها تنقيب بشكل ضئيل".
ولفت عالم الآثار نفسه، أن "تركيزهم في هذه الحفريات الأثرية ليس على الكم فقط، ولكن التركيز حول الكيف أيضًا، وبشكل خاص على مستوى نوعية الإشكاليات التي يتم الاشتغال عليها، والمواضيع التي يتم الاشتغال عليها، والمحاور التي يمكن أن تهم تاريخ المغرب أو تاريخ منطقة من مناطق المملكة".
زعزعة سرديات راسخة
أكد الباحث في التاريخ والتراث، يوسف الموساتي، أن "الطفرة النوعية في البحث الأثري بالمغرب، يمثل لحظة مفصلية في تاريخ المعرفة الأركيولوجية بالمنطقة، إذ أن المغرب الذي ظل لعقود طويلة في موقع المتلقي للمعرفة الأثرية القادمة من المركزيات الأكاديمية الغربية، بات اليوم فاعلًا ومؤثرًا في إنتاج تلك المعرفة".
وتأتّى كل هذا، "بفضل سلسلة من الاكتشافات، التي لا تمثل فقط أهمية محلية أو مغاربية، بل تسهم بشكل فعلي في تغيير نظرتنا إلى تاريخ البشرية؛ ولعل أبرزها اكتشاف أقدم إنسان عاقل في العالم بموقع جبل إيغود (غرب)، والذي يعود تاريخه إلى حوالي 300 ألف سنة"، يوضح الموساتي في حديثه لـ"الترا صوت".
واعتبر الباحث نفسه، أن "هذ الاكتشاف قلب التصور السائد حول موطن الإنسان العاقل، والذي طالما رُبط بشرق إفريقيا، وفتح المجال أمام مقاربات جديدة تضع المغرب كمهد للإنسان الحديث، وهو ليس مجرد قلب جغرافي لنظرية الخروج من إفريقيا، بل زعزعة سرديات راسخة حول نشأة الإنسان وتطوره؛ وهي سرديات طالما غذت المركزيات الجيو-معرفية التي حكمت الكتابة التاريخية، سواء الأوروبية منها أو المشرقية".
الطفرة النوعية في البحث الأثري بالمغرب، يمثل لحظة مفصلية في تاريخ المعرفة الأركيولوجية بالمنطقة
وعي أركيولوجي جديد
ويسجل الباحث في التاريخ والتراث، يوسف الموساتي، أن "هذه الاكتشافات بما تتيحه من معطيات، ليست فقط مكسبًا للمعرفة الأكاديمية، بل هي أيضًا رهانات ثقافية وسياسية بالمعنى العميق للكلمة، فمن يتحكم في أدوات كتابة التاريخ، يملك قدرة أكبر على إعادة صياغة مشروع مجتمعي حقيقي".
وقال المتحدث لـ"الترا صوت": "نحن أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف موقع المغرب في العالم، لا بوصفه فضاء على الهامش، بل باعتباره أحد المراكز البديلة لإنتاج التاريخ والإنسانية".
وشدد الباحث ذاته، على أن "المغرب يعيش مرحلة جديدة من الوعي الأركيولوجي، الذي لا يُعيد فقط الاعتبار للمكونات المهمشة في الذاكرة التاريخية، بل يعمل على تقويض الرؤية الاستشراقية التي سادت طيلة القرن العشرين، خاصة التوظيف الكولونيالي الذي كان يروم إثبات أسبقية وتفوق معين، غالبًا ما تمثّل في الآثار الرومانية أو الفينيقية، بينما جرى تهميش ما هو مغربي محلي بدعوى أنه فطري أو ما قبل تاريخي أو حتى بربري".