31-يناير-2018

عدسة شاب حوراني (فيسبوك)

سلكتُ الطريق المعبد ببقايا روائح البارود والقذائف وكل أنواع المعادن.

سلكتُ الدرب المؤدي إلى القرية المحروقة من بعد خراب الحرب، وكأنها مسقط الحياة الأولى والأخيرة.

سلكتُ الدرب إلى مسقطُ رأسي.

تغيّرت الشوارع، تغيرت الوجوه، تغيرت الأماكن، حتى منزلنا صاحب حجارة حوران السوداء تغير وأصبح هشًّا.

ذهبت إلى السوق لتفقّد طفولتي المتروكة كأعشاب مهملة على طريق السوق. تحسّستُ أسلاك الهاتف الأرضي المقطعة. كم نقلت هذه الأسلاك مواعيد ومكالمات فحواها العشق، في قرية تسخّر كل شيء للعاطفة والحب كعادة العرب.

المكتبة التي كانت تبيع كل شيء صارت مستودعًا للخبز اليابس وخوذ الجنود. البقالية غيّروا اسمها أيضا من "محل الرزق على الله" إلى "كل شيء بدولار". الصيدلية صارت مستشفى متكاملًا. محلّ الهدايا الذي كنا نقف على واجهته كأطفال ينظرون إلى الحلوى، حين كنا نبتاع لحبيباتنا عقودًا وأساور وورودًا حمراء أو زجاجات عطر، وبطاقات جاهزة ملونة بالأحمر، الأحمر الذي صار كل شيء إلّا الحب. محل الهدايا صار حطامًا كقلب عاشقة مات حبيبها، وبقي نبضها للدلالة على أنه كان هناك حبيب يومًا.

لمحت تلك الآثار الرومانية صامدة في القناطر على طريق السوق، ورأيت حائط البريد وعليه نجمة وهلال الدولة العثمانية، ومقابله مقسم الهاتف الذي حفروا عليه العلم الفرنسي من أيام الانتداب. الكل مروا من هنا إلا نحن طبعًا، وكأن حضارة الإسمنت حضارة هشة كالعروبة البائدة، لم أستدل علينا في قريتنا، لا بحجر ولا ببناء، ولا حتى بكلمة نقشت على جدار. لم استدل علينا في حطامنا.

عدت إلى جدتي. قالت: "على قلبك حساب يا بني ما بك؟"، قلت لها: "على ماذا يدل الرماد؟"، فقالت: "النار"، فقلت لها: "ونحن ماذا يدل علينا؟"، قالت: "هويتك يا جدة! لا تقل إنك أضعتها؟ القيامة قائمة ولا تستطيع استخراج واحدة بديلة أيها التعيس". تفحّصتُ بطاقتي الشخصية كانت هناك في الجيب، لكنّني الضائع هو هوية أخرى، لا أعرف كيف أشرح أمرها لجدتي. درب أطعم روما وباريس وإسطنبول قمحًا وعنبًا وزيتونًا، ثم ابتلعته الحرب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ضوء الفجر فلاش كاميرا

دوران الدوران