10-أغسطس-2018

حافلات لإجلاء السكان من مدينه حلب (Getty)

كنتُ دائمة الحزنِ حين كنتُ طفلةً صغيرةً،

لم يكن عندي أيّة لُعبة.

ولدتُ لعائلةٍ فقيرةٍ يومَ السبت.

ولدتُ في بيت ريفي صَغير،

إذا ما أردنا الدخول إلى المرحاض في البيت كان علينا اجتياز عشرة أمتار للوصول إلى فتحةِ الخراء تلك.

أبي كان يعمل في دكان خياطة وأمي كانت تهتم بنا،

أربع بنات وخمسة أولاد.

زُوجت في العشرين من عمري من رجل لا أحبُّه.

كانَ رجلًا طيبًا. أنجبتُ منه ابننا الأول بعدَ سنةٍ من الزواج.

أنجبنا أولادنا الثلاثة في الحرب.

أسامة عُمره الآن خمسُ سنوات

وليد في الثالثة، وسناء لم تبلغ السَنة بعد.

اسمي سِهام.

سِهام ذاتُ الوجهِ الذي جرّحته الدموع.

سهامُ الحزينةُ والوحيدةُ والمتعبةُ.

زوجي ماتَ منذ خمسةِ شهور جراءَ قصفٍ استهدفَ سوقَ البلدة.

كان يشتري لنا بعض الأرزِ الأبيضِ لنأكُله، بعدَ شهورٍ لم نأكلْ فيها غيرَ الذرة وأعشابِ الأرض.

سنواتٌ ونحن في حصارٍ خانقٍ، لا شيءَ عِندنا، سوى قذائفِ تنزلُ علينا مِنَ السماء.

قالوا لنا إنّنا سنُهجّر نحوَ الشمال. لم نعرفْ إلى أيّ مدينة،

لم نعرف كيف، كلُّ ما عرفناه أنّ من كان يحمينا في السنوات القليلة الماضيّة باعنا بسعرٍ بخسٍ.

لم نكن نملكُ خياراتٍ أُخرى غيرَ الانتظار،

كنّا نغرقُ في دواماتٍ مِنَ القصفِ المتواصلِ المجنونِ

وفي دواماتٍ من أخبارٍ غيرِ مُؤكدة عن النزوحِ والتهجيرِ.

كنّا ننتظر الموتَ شبه المُؤكد.

لا أملَ لنا في شَيء، وَلَا حتى في قبرٍ يُشبه ذلكَ الذي دفنّا فيه زوجي مُنذ خمسةِ شهور.

قبرُ زوجي الذي لم أودعْهُ قبلَ صعودي الباص الأخضر.

لم أكنْ أحبُّه لكنني بكيته كثيرًا، فلم يبقَ لي من بعده أحد؛

والدايَ نازحانِ في مخيمات لبنان، إخوتي تفرقوا في بلاد الله وعائلة زوجي مَاتت كلُّها في قصفٍ كيماويّ مروّع.

لم يبقَ لي أحدٌ، لم يبقَ عندي شيء.

حملتُ رضيعتي وابني الصغير وحقيبة صغيرة فيها أشياؤنا القليلة، أمسكَ ابني الأكبر بمعطفي الأسود السَميك، ذاك الذي ارتَديه صَيفًا وشِتاءً، واتجهنا إلى مكان تجمّعِ الباصَات التي ستقلُنا نَحو الشمال.

انتظرنا ثَلاثة أيامٍ في العراءِ إلى أن حانَ دورنا في الصعودِ.

صوتُ بكاءَ أطفالي يرنُّ في أذني طوالَ الوقت.

لو أستطيعُ فقط أن أتخلصَ مِن ذلكَ الصوت. لو أستطيعُ فقط…

في الباصِ جلسنا على مقاعدَ ضيقةٍ لفترةٍ طويلةٍ، حُطمَتْ عظامُنا.

صعدَ إلينا المُحتلون ليُسجِلوا أسماءَنا،

صعدَ إلينا المُفتشون ليتأكدوا بأنّنا لم نأخذ حفنة تراب من بلادنا،

صعدَ إلينا الغرباءُ شامتين،

رَمى علينا الحُقراء حجارةً كسّرتْ زُجاجَ النوافذِ على رؤوسنا.

لمَاذا كلّ هَذا القهر أيّها العالم؟

يَسيرُ بِنَا الباصُ دونَ أن نعرفَ اتجاهَهُ.

يَسيرُ بنا الباصُ الأخضرُ إلى المستقبلِ المجهولِ بعدَ أن تركنا ماضي الحصارِ وراءَنا.

يسيرُ بنا الباصُ وأطفالي نائمون فوقي.

يا الله، كم أُحبُّ أَطفالي!

بَعدَ يومٍ كاملٍ مِنَ المَسيرِ وَصلنا إلى منطقةٍ ريفيّةٍ في الشمالِ. كنّا متعبينَ ومقهورينَ.

نمُنَا على بساطِ المسجدِ ساعاتٍ طويلةٍ.

جاءَنا بعضُ الأخيارِ بالخبزِ والماءِ والأرزِ المطبوخ.

لا أعرف ما الذي ينتظرني غدًا، لكنني أفكرُ الآن:

عليّ أن أكون قويّةً مِنْ أجلِ أطفالي، مِنْ أجلِ مُستقبلٍ أفضل لهم.

هَذهِ هِي قِصتي. هَذهِ هِي قِصتي الكَامِلة.

أنَا سِهامُ المولودةُ في بيتٍ ريفي فقير.

أنَا سِهامُ الأرملةُ والمُهجرةُ.

أنَا سِهامُ، سِهامُ الحزينةُ وَالوحيدةُ وَالمتعبةُ.

أنَا سِهامُ، أمٌ لأطفالٍ ثلاثةٍ ليسَ لديهم مَا يَلعبونَ بِهِ سِوى التُراب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

يباس النهر

الكلمة قرّرت الموت