15-نوفمبر-2019

طريق جسر جل الديب "ساحة" للاحتجاج في لبنان (Rod & Roy)

هناك من يقول في لبنان إن الطريق "مقطوعة"، وهناك من يقول إنها "مغلقة". ورغم الفارق في الدلالة بين التعبيرين، إلا أن غالبية اللبنانيين الغاضبين، وفي تعليقاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو مباشرةً على الهواء، لا يبدو أنهم يقيمون وزنًا حقيقيًا للتمييز بين المفردتين. 

تحولت الطرقات التي قطعت أو أغلقت في الانتفاضة اللبنانية، لساحات للتجمع والاحتشاد بسبب غياب الساحات الحقيقية

وحسب ما يقولون، فإن ما يهمّهم فعلًا هو التأكد من تسجيل موقفهم الرافض لاستمرار الأشياء على حالها كما كانت قبل الانتفاضة. 

اقرأ/ي أيضًا: هل لا يزال قطع الطرق وسيلة فعالة في الانتفاضة اللبنانية؟

ما يريده هؤلاء فعلًا هو تسجيل موقف لا يتم تجاهله أو ضربه بعرض الحائط. وبالفعل، بعد إحراق الإطارات في الأيام الأولى، بدأوا في الأيام الماضية تكتيكًا تصعيديًا، تمثل ببناء جدران باطونية لقطع الطرقات، كما حدث في المنية شمال لبنان، أو في نفق نهر الكلب الساحلي. وهو "تكتيك" لا يبدو بالنسبة للكثيرين موفقًا لعدة أسباب، ليس أبرزها الطابع التقسيمي غير المرحب به الذي تتسم به هذه الطريقة.

قطع الطرقات في لبنان

أما اللافت في الأمر، فهو أن الطرقات التي قُطِعت أو أغلقت، تحولت أحيانًا إلى ساحات للتجمع والاحتشاد، نظرًا لغياب الساحات الحقيقية. وهذا يستدعي بحثًا طويلًا في تركيبة المدينة اللبنانية، أو أطوار تحول بعض البلدات إلى ما يشبه المدن، بسبب نمو مراحل غير متوازية للحداثة. 

ونظرًا لتعقيدات الوضع اللبناني الديموغرافية، وغيرها من الأسباب الأخرى، فإن كل طريق من الطرق التي اشتهرت بتحولها إلى ساحة اعتراض، لديها خصوصيتها المستمدة من خصوصية المحتشدين فيها. 

هكذا، صار واضحًا للمتابعين أن قطع الطرقات يتوزع على رقعة كبيرة من المناطق اللبنانية، ويتمدد كبقعة زيت عصية على الاحتواء حتى الآن، من الشمال في طرابلس وعكار، وصولًا إلى الجنوب في صيدا، ومرورًا بالطريق الساحلية الطويلة التي تربط الشمال والجنوب، إضافة إلى المناطق الداخلية ولا سيما الضواحي الشمالية للعاصمة. وثمة ما هو لافت في كل هذا: "تحول" بعض الطرقات المقطوعة إلى ساحات.

جلّ الديب.. جسر بين زمنين

البداية من هنا قد تبدو مستغربة، لكن الحشد هناك لم يكن متوقعًا، ثم صار استمراره حدثًا أيضًا؛ أولًا، لا ساحة في جلّ الديب، بل استحدث المتظاهرون ساحة كي يتسنى لهم الاحتشاد، وقد بدأوا بالتوافد إليها منذ الأيام الأولى للانتفاضة.

جسر جل الديب
جسر جل الديب وقد تحول ساحة للاحتشاد في الانتفاضة اللبنانية

 عن قصد ترك المتظاهرون الطريق البحرية سالكة، ولكنهم استثمروا الجسر، الذي يوصل إلى الشمال، ويصل المنطقة بعمقها الديموغرافي في المتن، ليحوله المتظاهرون إلى ساحة. 

والجسر، في الأصل، يمثّل السياسات الخاطئة برأي كثير من المشاركين في التظاهرات، لأنه لم يحلّ أزمة زحمة السير، رغم محاولات توظيفه كإنجاز، واستثماره في السياسة. 

أخيرًا، نجح المتظاهرون في استثمار الجسر فعلًا بتحويله إلى ساحة، وتحويل جلّ الديب نفسها إلى معقل من معاقل الانتفاضة. 

ومع الوقت تحول الجسر بضخامته إلى نقطة تجمع اكتسبت رمزية مضاعفة، بما تمثله من إدارة سيئة في الماضي، وموقع رحب في الحاضر. 

اكتسب الجِسر اسمه، كمحاولة للوصل بين زمنين: الزمن الأول عبارة عن أسفلت التعهدات الطويلة، والزمن المقبل عبارة عن أصوات تطالب بالتغيير.

طبقة الرينغ الوسطى

يقع هذا الجسر أيضًا، جسر الرينغ، بوسط بيروت، ويشكّل دليلًا فظًا على سياسات إعادة الإعمار الخاطئة بعد الحرب، التي أسهمت في تسريع وتيرة التحولات الرأسمالية في بيروت، إلى درجة تكاد أن تكون قياسية. هذه السياسات التي حوّلت الوسط التجاري إلى محمية تجارية، استفادت من المضاربة العقارية، وصارت محصورة لوقت طويل بفئة ضيقة. 

وظيفة هذا الجسر، في الأساس، كانت قطع الأوصال، بين الأحياء الفقيرة والوسط التجاري المخترع بصيغته الحالية بعد الحرب، عبر عملية إحلال استغرقت من الوقت ما استغرقته.

جسر الرينغ
جسر الرينغ في الانتفاضة اللبنانية

بيد أن الآثار ماثلة بوضوح فإذا وقفت وأدرت ظهرك للبحر، ستبدو الأحياء الفقيرة في خندق الغميق واضحة تمامًا، مقابل الأبراج الزجاجية الضخمة، الفارهة، إلى اليسار. 

الجسر الذي تحول إلى ساحة، يقع في الوسط تمامًا، ويصل إلى إشارة برج الغزال، التي يتوجب عبورها مباشرةً إلى الأشرفية. ونظرًا لقربها من الأشرفية، فإنه، وعلى عكس جلّ الديب، ينتمي المعتصمون على الرينغ، من جهة الأشرفية، إلى ما يشبه طبقة وسطى عليا، لديها ذائقة في التعبير والموسيقى والاعتراض، مختلفة عن ذائقة المعترضين في ساحتي الشهداء ورياض الصلح مثلًا. 

والحديث هنا عن "سلوك" المنتمين إلى هذه الطبقة على مستوى التعبير عن أنفسهم، فهم يتشاركون الانتماء إلى الانتفاضة كمتضررين من حكم القِلة، مع جميع المتظاهرين من الشمال إلى الجنوب.

مثلث خلدة التاريخي

بعد استشهاد علاء أبو فخر، اكتسبت المنطقة أهمية مضاعفة في الانتفاضة. لكنها في الأساس، تشكل بوابة أساسية للمتوجهين من بيروت إلى الجنوب، كما يمكن اعتبارها آخر نقطة على تخوم جبل لبنان التاريخي.

 حاضرًا، خلدة منطقة مفتوحة على مناطق متفرعة منها تنوعت طائفيًا، للمفارقة، بفعل المضاربات العقارية في كثير من الأحيان. 

أما تاريخيًا، فشهد المثلث في المنطقة -وهو مثلث لأنه يقود إلى ثلاث اتجاهات رئيسية- على معركة ضارية بين جيش الاحتلال الإسرائيلي من جهة والمقاومة الوطنية من جهة ثانية، خلال اجتياح بيروت في 1982. 

صار واضحًا أن قطع الطرقات يتوزع على رقعة كبيرة من المناطق اللبنانية ويتمدد كبقعة زيت عصية على الاحتواء حتى الآن

هذه الرمزية قد تكون حاضرة في خلفية المعتصمين، لكن ربما يقتضي الواقع نزع شريط المبالغة، حيث يتبين أن أولوية المتظاهرين اليوم، كما يعبّرون أنفسهم، هي تغيير النظام السياسي اللبناني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الانتفاضة اللبنانية تتوسع وخطاب السلطة يفشل مجددًا

"يسقط حكم المصرف".. عقدة رياض سلامة في منشار الاقتصاد اللبناني