23-فبراير-2016

منيف عجاج/ سوريا

لم يقتصر لقب "شاعر البعث" على سليمان العيسى فقط، رغم أن العدد الأول من صحيفة الحزب صدر بخط يده، ورغم أنّه ناظم النشيد الرسمي للحزب. في سوريا، اتسع اللقب كثيرًا وضم عددًا وافرًا من البعثيين، لعل أشهرهم يوسف الخطيب، لكنّ ضمن طبقات متعددة جدًا، نحتاج عند مقاربتها إلى الاستعانة بخبرة ابن سلّام الجمحي في كتابه "طبقات فحول الشّعراء".

ثمة ولع سوري لدى مختلف أصحاب المراتب الحزبية والإدارية والأمنية والعسكرية بالشعر، القديم منه على وجه الحصر

يصعب حصر عدد شعراء البعث لكثرة توالدهم في المناسبات الوطنية والقومية، لكن هذه المناسبات تقدم نفسها كوسيلة قياس، حيث يمكن تصنيف طبقات الشعراء البعثيين تبعًا لتدرج أماكنها، فيصغر الشاعر بصغرها، ويكبر بكبرها.

اقرأ/ي أيضًا: الحرب في خمس عشرة دقيقة

المناسبات في البلد واحدة على الدوام، لكن الاحتفال مختلف بين مقرّات الفرق الحزبية البسيطة في القرى والبلدات، وبين المراكز الثقافية في النواحي والمناطق، وصولًا إلى المقرات الفاخرة في المحافظات الرئيسية، التي يحضرها رجال الدولة وينقلها التلفزيون الرسمي. شاعرٌ يقرأ في احتفال مركز المحافظة هو شاعرٌ كبيرٌ بلا جدال، بينما شاعر المقرات الحزبية أشبه بالمبتدئ، أو الشاعر الناشئ، بغض النّظر عن عمره.

هناك ارتباط كبير وغريب وخطير في آن، بين الانتماء البعثي والشعر. ثمة ولع سوري لدى مختلف أصحاب المراتب الحزبية والإدارية والأمنية والعسكرية بالشعر، القديم منه على وجه الحصر. لا يختلف هذا التعلّق في جوهره عن تعلّق السلطات العربية القديمة، نتيجة عطبٍ فيها، بالشّعر بوصفه شكلًا من أشكال الخلود. لكن السلطة القمعية لا تبحث عن خلود في الكلمات أو اللغة، لأن الخلود الذي تبتغيه هو البقاء على كرسي السلطة، لذا نراها تطلب الشعر الموزون لأنّه يعبّر عن الانضباط والخنوع المطلوبين من المواطنين، ولأنّه شكل من أشكال التعبير عن الولاء. الشاعر البعثي مجرد مثال تقدمه السلطة القمعية للناس ليتعلموا أصول الولاء والبيعة والطاعة لـ"الرئيس المفدّى".

ثمة اختلافات كبيرة بين شعراء الطبقة الأولى نراه في ظهورهم على التلفزيون، وقراءة قصائدهم في الإذاعة، ونشرها في الصحف الرسمية. بينما يقتصر حضور شعراء الطبقة البعثية الوسطى على مجلات النقابات والاتحادات المهنية، فتقرأ لأبي غيث، على سبيل المثال، قصيدة تربوية في مجلة المعلمين، وبحثًا نقديًا عن "الريف في الرواية السورية" في مجلة نقابة الفلاحين. أما شعراء الطبقات البعثية الدنيا فلا يجدون من ينشر لهم قصائدهم إلا بالصدف النادرة، لذا يقتصر حضورهم على منابر المناسبات في المدارس والمقرات الحزبية. يشترك شعراء الطبقتين الوسطى والدنيا بكتابة التقارير الأمنية. بالتأكيد لا يعني هذا نظافة يد شعراء الطبقة الأولى من هذه المهمة، بمقدار ما يعني أنهم انتقلوا من كتابة التقرير إلى وضع محدداتها وأصولها وتوجهاتها، بعد انتقالهم من الهواية إلى الاحتراف.

الشاعر البعثي كثير المزاح مع الزوجة والزملاء، ولكن بأسوأ أشكال العربية الفصحى

ثمة صفات عامة للشاعر البعثيّ، يمكن أن نجملها بالتالي: عموديّ بالضّرورة، ولو مارس الأنواع الشعرية الأخرى يبقى مخه مخًا عموديًا. لديه شرف العضوية في "اتحاد الكتاب العرب"، و"نقابة المعلمين"، و"اتحاد الصحافيين".. وهو صاحب أيادٍ بيضاء في سبيل قوانين "التقاعد" و"المساعدة الفورية".. إلخ إلخ. شعره مقسوم إلى قسمين: سياسي وغزلي (هذا ما يقوله حين يعرّف عن نفسه) القسم السياسي مكرّس لفلسطين والكادحين وفضح العملاء والقوى الرجعية ومديح القيادة السياسية. أما القسم الغزلي فهو عذري عفيف (بناته صرن صبايا، ومن المعيب أن يقرأن ما يخدش حياءهن!!). ولا بد من الإشارة أنه يطبع دواوينه مختارًا للقصائد خطًا مائلاً، واضعًا على الأغلفة ورودًا وعصافير من تلك الصور التي تراها في أكشاك الكراجات، أو على الشاحنات القديمة.

اقرأ/ي أيضًا: الجبناء والتاريخ.. نظرات حول الحروب ودوافعها

يكثر من الكتابة عن طبيعة بلادنا الغنّاء بمختلف أنواعها وأشكالها: صحراء، سهل، جبل.. ويحدث أن يقود سيارته بين شعاب الجبال، وحين لا يحتمل نشوة جمال الوطن التي تقوض أركان وقاره، يخرج رأسه من نافذة السيارة صارخًا: "جبالي.. يا جبالي". طبعًا سيغير النداء بحسب تغيّر المكان فيصبح "سهولي يا سهولي" أو "رمالي يا رمالي"، عمليًا هو ينافق الطبيعة كما ينافق السلطة.

على صعيد الشكل هو مربوع وأكرش، أصلع لكنه يحتال على ذلك بوصلة شَعر طويلة يمدها من فوق أذنه اليمنى إلى ما فوق أذنه اليسرى. لا يظهر إلا بالبدلة الرسمية، أو بدلة "سفاري". يحلق ذقنه كل صباح. يمارس الجنس مرة واحدة في الأسبوع، مع أنه يتحدّث عنه طوال الوقت. كثير المزاح مع الزوجة والزملاء، ولكن بأسوأ أشكال العربية الفصحى. يقرأ لأصدقائه مختارات من شعر المديح والحكمة.

يرتكب شعراء الطبقة الأولى أخطاء قاتلة، كأنْ يخدعهم المبدأ الشعري الكلاسيكي الذي يقول "يحق للشاعر ما لا يحق لغيره"، فيظنون أنه بالإمكان نقد الفساد الكبير. شعراء الطبقات الأخرى لا يقعون بمثل هذه الهفوات، يعرفون طريقهم جيدًا، ذكاؤهم السياسيّ ثاقب، تراكم القصائد والتقارير والولائم سيفضي إلى منصب ما، والمنصب إلى آخر.. ولا داعٍ لنقد ما لم يكن ضد الصهيونية والرجعية العربية فقط.

يؤمن الشاعر البعثي بقدرة الشعر على التغيير، كيف لا وقصائده هي من أوصلته إلى البيت والسيارة

يؤمن الشاعر البعثي بقدرة الشعر على التغيير، كيف لا وقصائده هي من أوصلته إلى العز: البيت والسيارة والحوافز الشهرية وأذونات السفر وقسائم البنزين.. حياة بأكملها يتولى الشعر تدليلها، ورفاهيةٌ باذخة تستطيع القوافي والأوزان أن تجعلها حقيقية. 

ليس من الضروري أن يكون الشاعر البعثي شاعرًا، كما ليس من الضروري أن يكون بعثيًا، ولنا في روائي شيوعي خير مثال، حيث نال ما ناله رفاقه البعثيون، وفوق هذا سمح لنفسح باعتبار نفسه متفوقًا أخلاقيًا لأنه ليس في جوقة الحزب الحاكم. وقد يكون الشاعر البعثي فلسطينيًا ويظهر على شاشة التلفزيون الرسمي ليعتبر أهالي مخيم اليرموك "بالوعة" الفلسطينيين، لأنهم قاتلوا أهلهم، وأهلهم تشير إلى النظام السوري (يخطر على بال المشاهد أن يسأله بالمنطق نفسه: ولم شاركت في شبابك في حرب المخيمات؟ لم قاتلت أهلك؟). وفوق كل تلك القباحة، تراه يرتجل خطبة عصماء تحذّر من الخطر على فلسطين، وبالطبع على المقاومة (المقاومة كتيار سياسي لا بوصفها حقًا للشعوب)، فالخطر الذي يتهدد مهد المسيحية يستهدف ضرب فكرة أن المسيح هو أول مقاوم.

الأجمل في الشاعر البعثي أنه قد لا يكون شاعرًا بالضرورة بل روائيًا أو باحثًا. ولهذا بالذات لا يمكننا الإحاطة بكل تفاصيل طبقات شعراء البعث، لكن هذا مقترح لقراءة الثقافة السورية التي تناهبها هؤلاء بمختلف طبقاتهم.

اقرأ/ي أيضًا:

دليل المبتدئين في صناعة الدكتاتور

الوردة والرشّاش