20-أكتوبر-2017

من صفحة عدسة شاب حوراني (فيسبوك)

قرار

لم يهتم يومًا للصور، وحين سأله رفيقه "لمَ لا تتصور؟". أجاب وكأن الكلمات تخرجُ من فمهِ كنبضاتِ ألمٍ: "إن الصورة ذاكرة لا تموت، إنها سجننا ضمن لحظة لن تعود وأنا أخاف بردَ الشتاء والذكريات".

بدأ يحدثُ نفسهُ: "كم مرّ على بئرِ الغواية الطافح بالدمِ والسلاح؟ ألم يحن وقت استراحة المحارب؟ لا الثلج يطفئ النار ولا النار تذيب الثلج وكلنا نقتسم المنجل ونحصد أنفسنا، أَلمْ يحن وقت الهدوء؟ السلام الذي يحلمون به مستحيل. ما احتاجه هو الهدوء؟".

نظر إلى غصنِ الشجرة التي يستلقي تحتها، فشاهد شبه كتابة، نهض وبدأ يتحسسُ الغصن كمن يتفقد جراح حبيبته، وبدأ التهجئة: "ألف.. لام.. جيم.. الجولان". ابتسم وتذكر أيام الحب حين كان يدون اسم حبيبته على سيقان الشجر والأغصان وقن الدجاج، وموقف باصات القرية. حبيبته التي ماتت بقذيفة. جلس يحتضن طيفها الذي ينبع بالعطر، استعمل سكينه وحفر على ساق الشجرة "رجاء"، ورسم قلب حب بجانب اسمها ومضى مسرعًا إلى حفرة، فقد سمع صوت طائرة. ضحك كثيرًا لأن الطائرة انقذته من سكاكين الذكريات.

نظر إلى الأمام فرأى علمًا أحمر. نظر إلى الخلف فرأى علمًا أزرق. نظر إلى اليمين فرأى علمًا أخضر. نظر إلى اليسار وجد علمًا، فصرخ في نفسه: "متى وقعنا بين السندان والمطرقة متى؟ من أوقعنا بكل هذا هم من خلفنا وهم من أمامنا ونحن من حولنا".

وقف كما يقف نسر يشرف على الانتحار. صرخ بأحد رفاقه سأعود لتربية الدجاج وليتزاحم العالم على عش الحشر، رمى بندقيته سار بخطى بطيئة، صرخ رفيقه: "ويحك أتنسحب؟"، قال له بكل هدوء: "سأموت بين أطفالي وليس بين الشركاء في قتلنا جميعًا".

وما زال يجمع الحطب خوفًا من الشتاء، ويظن أن ضوء الفجر هو فلاش كاميرا، تأخذ له الصورة الأخيرة فيودع أطفاله كل صباح وكأنه لن يعود.

كيف أصبح سينمائيًا؟

بعد انتهاء العرض السينمائي، تقدمت من الرجل الذي يحمل الآلة التي تصدر الضوء وسألته: "هذه ما اسمها؟"، قال: "يا بني، هذه سينما". تركته وعدت إلى المنزل كمن يحمل شيفرة أو سرًا من أسرار الكون، لم تعد تثيرني صيحات الديوك ولا خوار الأبقار كل ما يشغل بالي ليل نهار كيف أصبح سينمائيًا؟

في اليوم التالي، سألت الأستاذ في حصة الموسيقى: "كيف أصبح سينمائيًا؟"، ضحك الاستاذ وقال لي: "اتركني أفكر بخبز عيالي يا ولد، هذه البلاد لم تخلق لمثل هذه الأعمال". جلستُ كمن تلقى دلو ماء بارد على وجهه.

في الفرصة، جاء ناصر وأخبرني أن ابن عمه يدرس في الشام، وإن كان بالشام سينما لن يبخل ابن عمه بأي معلومة. تجددت الآمال والأحلام وبدأت انتظر يوم الخميس بفارغ الصبر، وبدأت أحمل وسادتي وأقف أمام التلفاز وأخبر إخوتي أنني سينمائي، وأن الوسادة هي التي تخرج ما يرونه على التلفاز.

جاء الخميس وركضنا إلى بيت ناصر نسأله عن السينما، كان ابن عمه وسيمًا وأنيقًا غير شبان القرية، جلستُ بأدب منتظرًا أن يسمح لي بالكلام، ثم قال: "ما بكما؟". قلت له: "كيف أصير سينمائيًا؟"، قال: "حين تحصل على الشهادة الثانوية العامة تتابع دراستك في المعهد السينمائي". ودعناه، وبدأت أنحت في الدراسة مستثمرًا أي معلومة عن التصوير. وتمكنت من شراء موبايل له كاميرا تلتقط فيديو، وكان الكنز الذي سيفتح الطريق إلى هوليوود، ثم جاءت الثورة وكنت صدفة أصور الشبان يهتفون بالحرية فسقط أمامي أحدهم وكان ينزف. أن ترى فيلمًا سينمائيًا لإنسان ينزف يختلف جملة وتفصيلًا عن شخص يقع بين يديكَ ومعك الكاميرا التي هي مستقبلكَ، والرجل الذي حياته بين يديكَ.

حملته ولم أغلق الكاميرا، وركضنا نحو سيارة قريبة ثم إلى عيادة طبية لإجراء اللازم، فمات الرجل، وحين نظرت إلى الفيديو كنت أنزف ألمًا ووجعًا لا يمكن احتماله.

راسلت إحدى القنوات. عرضت المقطع وبدأت رحلتي الإعلامية. كل لقطة أتذكر فيلمًا من مشاهداتي السابقة، كان كله بلا سيناريو، والموسيقى التصويرية قذائف انفجارات صراخ. وفي إحدى المعارك جاء أحدهم وأخبرني بأن إحدى صوري فازت بجائزة على مستوى الوطن. تخيلت استمتاع الملايين بما أصوره مقابل حجم الألم لما أصوره، فكسرت الكاميرا وقلت له: "أخبرهم أنني أرفض".

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسوّدة الطيران

كانَ قلبي