16-ديسمبر-2020

من مظاهرة في برلين احتجاجًا على الإجراءات المتخذة لمواجهة كورونا (Getty)

منذ أن راح فيروس كورونا ينتشر في العالم، وراحت الحكومات تفرض إغلاقًا للحياة العامة والخاصة، بدأ الكثير من الناس يتخوفون من أن تلك القرارات تهدف إلى إحكام السيطرة على المجتمعات وتقييد الحريات الشخصية والعامة، وصولًا إلى إحلال السلطة محل الدولة، والفاشية بديلًا عن الديمقراطية وغير ذلك. ولم تتوقف المظاهرات في أمكنة عديدة من العالم، لا سيما في البلدان الديمقراطية، عن الخروج احتجاجًا على تلك الإجراءات.

الكثير من الناس يتخوفون من أن قرارات الحكومات لمواجهة كورونا تهدف إلى إحكام السيطرة على المجتمعات وتقييد الحريات الشخصية والعامة

في السياق ذاته، لم تتوقف المظاهرات الاحتجاجية على فقدان الكثير من الناس لأعمالهم ووظائفهم، ما أدى إلى ازدياد نسب الفقر والبطالة على الرغم من المساعدات التي قدمتها بعض الدول لبعض المتضررين من الإغلاق، إلا أنها مساعدات غير كافية. واقعيًا، تضم المظاهرات جميع أولئك المعترضين مهما كانت أسبابهم.

اقرأ/ي أيضًا: نعوم تشومسكي.. صناعة القبول في إدارة الإعلام

بصرف النظر عن الموقف من تلك الاحتجاجات -من حيث أن ثمة من رأى أن إجراءات الحكومات القاسية ما هي إلا الطريق الوحيد المتاح للحد من تفشي الوباء وللمحافظة على حياة الناس، ففي الأوبئة كما في الحروب يفكر الناس -أولًا- بالبقاء أحياء- فإن الحكومات، الأوربية خاصة، اتهمت المتظاهرين بأنهم من اليمين الشعبوي ومن المؤمنين بنظرية المؤامرة، الأمر الذي ساهم بحشد ضدهم. فإطلاق تهمة اليمين الشعبوي على كل من يعارض السياسات الحكومية الغربية سمة جديدة اتبعتها لحرف الأنظار عن المطالب الحقيقية للمحتجين والمتمثلة بتغيير سياسي على مستوى السلطة.

في إحدى التغطيات الإعلامية لواحدة من تلك المظاهرات في العاصمة الألمانية؛ برلين، تم تقديم المظاهرة بأن اليمين الشعبوي المؤمن بنظرية المؤامرة والذي لا يعترف بوجود كورونا خرج في مظاهرة بلا كمامات يرفض فيها إجراءات الحكومة للحد من انتشار الوباء. وفي النشرة ذاتها تم عرض مشاهد من المظاهرة ظهر فيها أن قسمًا من المتظاهرين يرتدي الكمامة! وفي المظاهرة ذاتها عبر بعض المحتجين أن تلك الإجراءات أفقدتهم عملهم ووظائفهم. لا يوجد أي نفي لعدم مشاركة اليمين الشعبوي والمؤمنين بالمؤامرة بتلك المظاهرات والاحتجاجات وبالدعوة إليها أحيانًا، لكن لا ينبغي اعتبار أن المتظاهرين هم ذلك اليمين.

عمقيًا، تبدو تلك الاحتجاجات احتجاجًا ليس على إجراءات فحسب، بل على السلطة ذاتها، ولم تطالب بتغيير إجراءات فحسب، بل بتغيير سلطة. فقد ثبت حتى في أكثر الدول تطورًا وتقدمًا عجز الأنظمة الصحية عن معالجة الناس، على الرغم من المليارات التي تُنفق على الأسلحة وعلى الصناعات التقنية والذكاء الاصطناعي لأنه يدر أرباحًا أكثر، فيما بقيت القطاعات الصحية مهملة من حيث عدد الكوادر العاملة، ومن حيث رواتب العاملين، ومن حيث التجهيزات، ما فضح الأمر أنه إذا الموجة الأولى للوباء مفاجئة ولم تكن الحكومات مستعدة لوباء كارثي بهذا الحجم، فإن الموجة الثانية لم تكن كذلك، وكان يتم الحديث عنها منذ الموجة الأولى، إلا أن الحكومات لم تفعل شيئًا يُذكر لمنظومتها الصحية كاستعداد للموجة الثانية، إنما عملت على إلقاء اللوم على تراخي الناس وعدم التزامهم بتعليمات السلطة وبانخفاض مستوى وعيهم! إلقاء اللوم على الناس، وإن كان ينطوي على شيء من الصحة، إلا أنه، كما يعبر سلافوي جيجيك؛ الفيلسوف السلوفيني المثير الجدل، تحول إلى إيديولوجية تمكنت من حرف الأنظار عن مطالب الناس بتغيير سياسي في السلطة نفسها، أو تغيير السلطة نفسها. فالإجراءات المتخذة كالعزل الاجتماعي والمراقبة والمعاقبة، وإن كانت سبيلًا وحيدًا، كما يرى الكثيرون، إلا أنها بحاجة إلى بدائل ضمانية للمتضررين.

أحد أكبر المعترضين أجراءات الحكومات هو الفيلسوف الإيطالي أغامبين، الذي اعتبر أن الهدف هو السيطرة وترسيخ سلطة شمولية

أحد أكبر المعترضين على تلك الإجراءات هو الفيلسوف الإيطالي أغامبين، الذي اعتبر أن هدف الحكومات هو، فقط، السيطرة، وترسيخ نفسها كسلطة شمولية. فقد اعتبر أن تلك الإجراءات هدفت أيضًا لأن يكون الإنسان"عاريًا"، أي مجرد كائن بيولوجي يأكل ويشرب ويحافظ على نفسه حيًا، وقد وضعت الحكومات ما يحتاجة الإنسان من قضايا رمزية وثقافية معقدة في سلة المهملات، وبهذا تتمكن من إدراته ومن أن يكون طائعًا و"غبّ الطلب" الذي يُطلب منه مهما كان، شريطة بقائه حيًا. قد يكون أغامبين متطرفًا في رأيه هذا، وقد اتُهم بالتطرف فعلًا، وفي توضيحه لرأيه بدا أكثر راديكالية.

اقرأ/ي أيضًا: بين اليسار واليمين

على عكس جيجيك وأغامبين وافق هابرماس، الفيلسوف الألماني الذي لم ينفك، في جميع الظروف والأحوال، من الدفاع عن الحداثة والتنوير، إجراءات الحكومات، وإجراءات حكومته الألمانية حصرًا، فقد اعتبر أن بقاء الناس أحياء هو الأولوية، لكنه دعا إلى أن فترة التدخل السلطوي والمراقبة والمعاقبة يجب أن تكون محدودة الزمن، وأن تنتهي كليًا حال انتهاء الوباء.

فيما شن المفكر الأمركي ذائع الصيت نعوم تشومسكي حملة لا هوادة فيها ضد الرأسمالية المتوحشة والنيوليبرالية التي عوضًا عن أن تصنّع الأدوية للمرض صنّعت الكريمات لأنها أكثر ربحًا، مفضّلة استثماراتها على حياة الناس. ودعا إلى أنه لا حل في هذا العالم "المتوحش" الآن وبعد كورونا إلا في نزع أنياب الرأسمال والنيوليبرالية، ووضع الأخلاق في المرتبة الأولى.

تلك الآراء والتحليلات والتخوفات والتمنيات تنطلق من مبدأٍ عام، وهو انعدام الثقة بالسلطة. وهو أمر له وجاهته حتى في البلدان الديمقراطية، حيث حلّت الإدارة محل السياسة، وفُضلت مصالح الرأسمال على مصالح الناس، وحلّ التمثيل العددي محل الديمقراطية، والتكنوقراط محل ممثلي الشعب، وغير ذلك... وقد استغلت السلطة الآن، حسب متظاهرين ومفكرين، قضية "الصحة العامة" كنموذج(باراديغم) للسيطرة، فخوف الناس على حياتهم هو البؤرة التي تنطلق منها وتعود إليها مظاهر الحياة كافة، وللحفاظ على الحياة يجب على الإنسان أن يقبل ذلك الشرط في أن يكون "عاريًا"، حسب أغامبين، مقابل أن تحافظ السلطة على حياته. انعدام الثقة يبرز أكثر وضوحًا في انعدام الثقة باللقاح لدى قطاعات من الناس. اللقاح الذي انتظرته البشرية يومًا بيوم، بل ساعة بساعة، وعندما ظهر تشكك بعضهم في سلامته، ليس شرطًا أن المتشككين لا يؤمنون بالعلم، بل لأن الشركات الرأسمالية هي التي تروج له وتبيعه وتوزعه، وقد جعلته استثمارًا اقتصاديًا حسب هؤلاء، وذلك كله عبر الحكومات التي تدير شؤون تلك الشركات وتنافساتها... فالحكومات راحت تعبر عن مصالح الرأسمال وتنفذها ربما منذ الحقبة التاتشرية (تاشتر، رئيسة وزراء بريطانيا 1979-1990) حيث اتبعت تاتشر منذ العام  1980 سياسات الخصخصة والسوق الحر والليبرالية الجديدة، ناقلة بذلك العمل الحكومي من كونه يراعي مصالح الرأسمال ضمن سياسته العامة، إلى كونه يعبر عنها وينفذها.

بحسب نعوم تشومسكي، لا حل في هذا العالم "المتوحش"، الآن وبعد كورونا، إلا في نزع أنياب الرأسمال والنيوليبرالية، ووضع الأخلاق في المرتبة الأولى

ماذا سيحدث بعد كورونا؟ جيجيك يتوقع أن يزداد الرأسمال شراسة وتوحشًا، فالبديل اليساري غير موجود، وغير فعال، ولا نماذج جديدة له ليقدمها، فقد سقطت جميع النماذج التي قدمها عبر تاريخه. أما أغامبين فيتوقع عصرًا شموليًا لا رادّ له، فقد نجحت السلطة في تخويف الإنسان وترهيبه، وأجبرته على أن يكون مجرد "إنسان عارٍ". ويبدو هابرماس مطمئنًا إلى الديمقراطية الأوروبية ومتمسكًا بها وغير قلق بشأنها وعليها. فيما تشومسكي ينتظر وعيًا كونيًا يقضي على الرأسمالية المتوحشة والنيوليبرلية المتفلتة.

اقرأ/ي أيضًا: الوباء والأدب.. نبوءات ضائعة بين نجيب محفوظ وعباس بيضون

إلا أنه مهما بدت النهايات غامضة ويائسة وغاضبة، سيكون مفيدًا النظر إلى تلك المظاهرات، هنا وهناك، على أنها يمكن، بأقل قدر من التفاؤل، أن تساهم في تغيير ما في السلطة وتمثيلاتها. إذ أنها نوع من المقاومة مهما وقفنا ضدها واعتبرناها "حمقاء" لأنها لم تأخذ فكرة "البقاء حيًا" بوصفها الرجاء الأول للبشرية، بحسبانها عندما خرجت تحتج.

 

اقرأ/ي أيضًا: