17-يناير-2022

غرافيتي على صندوق بريد

ليس من باب التضخيم القول بأني، أغلب الأحيان، لا أبدو من الفالحين في استنباط العناوين الصادمة باعتباري، كالكثير من الناس، لا أستسيغ أن أُفاجأ في دروب الحياة بالصواعق السماوية أو الصدمات الأرضية. كما أن عناوين مكتوباتي، على الأغلب، تنتقل من بطن المادة إلى رأسها في نهاية المطاف التدويني.

ولكن، مع ذلك، قد يثير العنوان هاهنا استغراب بعض من يشاهدونه، ولربما امتعض آخرون منه قبل معرفة ما يرمي إليه مكتوبنا هذا. ولكنني أتصور أن حدة الاستغراب ستزول إذا ما عرف الواحد منهم لمَ طالبنا في الرسالة الموجهة للسيدة بضرورة ألّا تقرأ، ولمَ في الرسالة الثانية قلنا للطرف الثالث، أي الوسيط، أنه من الأفضل لصاحبنا المراد إيصال الرسالة إليه أن يكف عن الكتابة في الشأن الذي يكتب عنه.

مع العلم أننا، حيال الرسالة الأولى، كنا على الدوام من الداعين إلى جعل الغرفِ من عيون المعارف حاجة يومية، مثل الطعام والشراب. كما أننا، حيال الرسالة الثانية، لم نكن يومًا ضد التسجيل، بل وعلى العكس تمامًا، كثيرًا ما أراني في وضعية لطم الذات، قائلًا بيني وبين نفسي: لماذا لم أدعُ والدي رحمه الله إلى تسطير ما خبِرهُ شخصيًا من حوادث ومواقف وعِبر وتجارب تستحق الذكر.

وبالتالي، إن على كل رجل أو امرأة له/ا وجود معنوي في المجتمع ترك أثرٍ مكتوب خلفهم، ليس بالضرورة للطبع والنشر على نطاقٍ واسعٍ أو ضيق، إنما على الأقل لكي تستفيد عائلته/ا من حكمته/ا وتجاربه/ا، فيكون الخلفُ عندئذٍ على دراية بالمحن التي عاشها السلف على مدار حياته، ويعرف المصائب التي صُبّت على أيامه وكيف أزاحها، ويعي حجم الوقائع التي تخلص من سطوتها، ومن ثم يدرك عموم المضائق التي تملص منها.

وفيما يتعلق بالرسالة الأولى، فإن الأمر حدث، على ما أذكر، قبيل عام 2010، حيث أودعت آنذاك محتوى تلك الرسالة منطوقًا في حُجر والدتي، مع التصور حاليًا بأنها ما تزال سارية المفعول، أي أنها صالحة للقول اليوم أيضًا، ولكن مع أشخاصٍ آخرين أو نسوةٍ أخريات ممن كن في مقامها، بالرغم من أن المحتوى نُقل حينها لإمرأة بعينها في مدينة حلب، وفحواها أنه بعد زيارةٍ ميدانية من قبل بعض النسوة للمنزل، طلبت والدتي رحمها الله مني بضع قراطيس لكي أعطيها للسيدة (أ ـ م) التي لاحظتُها أثناء الزيارة وهي بكامل خمولها، إضافةً إلى معرفتي السابقة بها كامرأة متقاعسة، لذا قلتُ للوالدة: إن تلك المرأة ليس لديها فائض من الوقتِ حتى تستنزفه مع الكتب يا أمي. وأضفتُ: تعرفين يا أمي بأني لا أبخل بالأوعية المعرفية على أحد، بالعكس أرى بأن الكتاب كلما تم تداوله بين العديد من الأشخاص، زادت الفائدة المرجوة منه.

وأردفت قائلًا: ولكن يا أمي أرجو أن تبلغي السيدة تلك على لساني، بأن القراءة هي آخر حاجة يجب أن تلتفت إليها! بما أنها، حسب علمي، مقصرة بحق أولادها، ومقصرة في أعمالها المنزلية، ومقصرة بحق زوجها، لأن الكتب يا أمي مع هذه المرأة الخمولة ستضيف علة أخرى إلى المنزل بدل الفائدة المأمولة، وقد نكون في إعطائها الملهيات السبب المباشر لخراب بيتها، لذا اعتذري منها بأي طريقة كانت، هذا إن كنت تخجلين من صدها أو الرد على سؤالها بطريقتي الجافة.

وللمرة الثانية أعيد وأقول بأني أتمنى من كل قلبي أن يتواجد الكتاب مثل الألبسة في خزائن كل مخادع البيوت، وأن لا يتباخل المرء بشراء كتابٍ يفيد عقله ويزيد علمه ومعرفته، كما لا يتباخل على بطنه ومغذياته اليومية التي يشتري لنفسه منها ما لذ وطاب.

ولكني وضعت القراءة آنذاك في آخر السلم من أولويات حياة تلك المرأة ليس من النفور الشخصي منها، وليس لأني بخيل أو لا أعير أدواتي المنزلية، سواءً كانت تلك الأدوات للعمل أم للطبخ أم كانت أوعية معرفية، إنما لأني تصورت بأن تعلّق تلك المرأة بالقراءة، مع فشلها الذريع في تدبير أصغر شأن من شؤونها المنزلية، سيكون بمثابة وضع السكين في يد شخصٍ يود الانتحار، وذلك بدلًا من إبعاد كل شيء حاد وخطير عن متناول أطرافه، وإبعاده قدر المستطاع عن الأماكن العالية. ذلك أنني، ومن خلال قراءتي لمسار حياتها، رأيتها تقيم على الحافة فيما يتعلق بأداء واجباتها اليومية في البيت، وخاصةً مع الأسرة والأولاد. لذا بعثتُ لها ما قلته للتوِ في رسالتي الشفهية عن طريق والدتي رحمها الله.

أما الرسالة الأخرى المتعلقة بالكتابة، فأرسلتها منتصف العام الماضي 2021 لقريبةٍ لي مقيمة في أوروبا، وطالبتها عبر المكتوب الإلكتروني بأن تبلغ رسالتي لكاتبٍ له سنوات في تلك المرابع وهو ينقّب في أرشيف الملة بأوروبا: متى قدموا إليها؟ ماذا أنجزوا فيها؟ وما هي النشاطات البارزة لهم؟ وماهي الشخصيات التي سطعت من بين تلك الجالية؟ وما الأثر الذي تركته تلك الشخصيات في أناس زمانهم والذين جاؤوا بعدهم؟

أما موقفنا السلبي من الكاتب، فلم يصدر إلا عندما علمتُ بأن الشخص نفسه، أي المهتم جدًا بأثر وفاعلية الشخصيات الثقافية والسياسية السابقة على أبناء الجالية فيما بعد، ليس له أي تأثير يُذكر على المعارف وحتى على أقرب الناس إليه، وذلك عبر السؤال عنه بُعيد رؤيتي حفل زفافٍ لقريبٍ له، بينما ليس في الحفل برمته شيء يدل على أن هذا الحفل لأهالي منطقته، أو يشير من قريبٍ أو بعيد إلى ملته، بل إن الأمر كان بخلاف ذلك تمامًا، إذ إن الفقرات الغنائية، والوصلات الموسيقية، والعروض الفنية، ومفتتح الحفل كله كان بلغات الأمم التي تحارب لغة وثقافة بني قومه. بل إن الدول الناطقة بتلك اللغات التي يدبك على أنغام موسيقاها أقرباؤه كانت، على الدوام، مع قمع ثقافة أهل منطقته وشرعنة غزوها وتدمير البنية الاجتماعية فيها.

لذا، قلتُ لقريبتي: يا ترى لمن يُقيِّد صاحبنا تلك المكتوبات؟ وأي أهمية لمدوناته إذا كان أقرب الناس إليه يعملون بخلاف ما يعمل عليه، وما يدعو إليه، وما يكتب عنه؟ وهو إن دل على شيء، فهو دليل على أن هذا الشخص ليس له أي أثر ملموس في وسطه الاجتماعي الملتصق به، فكيف لمن يقدِّم نفسه كواجهة ثقافية في محيطٍ ما، أو كواجهة سياسية في بيئةٍ ما، أو كواجهة اجتماعية في مجتمعٍ ما، بألا يكون ذا أثر أو تأثير ولو محدود في المحيطين به، في القريبين منه، في أن يترك أثرًا مأمولًا فيمن لا يعرف عنهم شيئًا أو من يبتعدون عنه آلالاف الكيلومترات؟

وقلتُ في خطابي المسطور حينها: أحس بأن كاتبنا أشبه بإمام جامعٍ يدعو الناس للصلاح بينما كل أولاده في مهاجع الفسق مقيمين. أو كسياسي يحث المجتمع للاهتمام بالسياسة حتى يميزوا بين الصالحين والطالحين من الساسة، ولئلا يتم خداعهم بالشعارات الفضفاضة إبان الانتخابات، ولكن يتبين حين المحكِ بأن جميع أولاده لم يحفظوا حتى اسم الجهة التي يعمل معها أو لصالحها والدَهم، لذا اختاروا أفسد الساسة ومضوا خلفهم. أو كمثقفٍ يدعو الملأ للتنويرِ بينما الظلام يفرض سلطانه على بيته وأسرته.

وفي النهاية بديهي أن يكون الهدف الأبرز للقراءة ليس هي عملية القراءة نفسها، إنما مقصدها الأبرز كامنٌ في الاِنتقال عبرها من منطقة الهُراء والجهل إلى ديار العلم والمعرفة، من عتمات الذهن إلى ضياء العقول، من حالة الجمود والتكلس إلى المبادرة والحركة والتفاعل عوض التقوقع، والسير من خلال سطورها إلى ضفاف الآخرين وعوالمهم، وإلى فهم العالم والآخر والذات عبر تلك الأسفار المكتوبة، علاوة على تلقي أو إيصال الرسائل والأفكار والتصورات عن طريق المكتوبات.

أما إذا كان المقروء بمثابة حاجزٍ يمنعنا من المضي للأمام، وإذا كان المقروء عبارة عن قيدٍ للمتلقي، فهل ثمة ضرورة للمكوث في مسكن الكاتب؟ ثم إذا كان مكتوب الكاتب غير قادر على أن يضيء درب القريب منه عبر ما في منتجه من رسائل النور، فكيف بمقدوره أن يضيء دروب البعيدين عنه؟ طالما أن للكتابة أغراض كثيرة، كما أن القراءة ليست غاية بحد ذاتها، إنما هي المركبة التي تنقلنا من شطٍ إلى آخر، ومن محيطٍ موبوءٍ إلى محيطٍ صحيٍّ آمن، من ثقافتنا المحلية المحدودة أو المحددة إلى عالمٍ أرحب.

ومن كل بد أن وظيفة القراءة هي نقلنا إلى فضاءات أرحب، وليس بأن يغدو المكتوب حصنًا ينزوي المرء خلف أسواره، أو سدًا يفصلنا عن الآخرين. وفي هذا الصدد بودنا الاختتام بما قاله الروائي البرتغالي الراحل جوزيه ساراماغو:"هنالك من يقضي حياته كلها في القراءة دون أن يمضي إلى ماهو أبعد من القراءة، هؤلاء يبقون ملتصقين بالصفحات، لا يدركون أن الكلمات ليست سوى أحجار مصفوفة تعترض تيار النهر، وإذا كانت هناك فإنها موجودة لكي نتمكن من الوصول إلى الضفة الأخرى، الضفة الأخرى هي المهمة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

شيء عن الجنود

الأشياء الجميلة تحدثُ مرّة واحدة فقط