15-يناير-2023
صوماليلاند

هرجيسا (Getty)

شهدت مدينة لاسعانود حاضرة إقليم سول في صوماللاند مظاهرات شعبية في الآونة الأخيرة، اندلعت على خلفية فشل الحكومة في وقف عمليات الاغتيالات المتكررة في المدينة، قبل أن تتطوّر إلى أعمال عنف خلفت قتلى وجرحى عل يد الشرطة بحق المدنيين. وقد رافق هذه التطوّرات سجالٌ بين رواد وسائل التواصل الاجتماعي حول الإجماع على الدولة بين المكونات الاجتماعية في صوماللاند.

نستحضر في هذا النقاش التمييز المهم الذي وضعه عزمي بشارة بين “دولة الأمة" و"أمة الدولة"، ويقصد بالأولى الدولة التي تتشكّل وتتبلور من أمة من المواطنين، بينما يقصد الثانية بتلك القائمة على القومية الإثنية

يصب هذا النقاش حول السؤال غير المحسوم لدى الصوماليين حول الهوية الوطنية، حيث عادة ما تثير التحيزات المعلنة والخفية عاصفة من الجدل الأساسي، الذي يلزم لفهم طبيعته أن نستحضر التمييز المهم الذي وضعه عزمي بشارة بين “دولة الأمة" و"أمة الدولة"، إذ يقصد بالأولى الدولة التي تتشكّل وتتبلور من أمة من المواطنين، بينما يقصد الثانية بتلك القائمة على القومية الإثنية. وهو النموذج الذي ينطبق على الحالة الصومالية تاريخيًا: فقد هدفت الدولة الصومالية إبان قيامها في مرحلة ما بعد الاستقلال على فكرة تأسيس "الصومال الكبير"، وسعت لضم كافة الصوماليين في القرن الافريقي والموزعين في خمسة أقاليم استعمارية تحت دولة واحدة، وتم الترميز لذلك بعلم الاستقلال الصومالي ذي النجوم الخمسة. وفي أول خمسة أيام، نشأ اتحاد فوري بين الإقليمين المستقلين من الاستعمارين البريطاني والإيطالي، صوماللاند، والصومال الإيطالي، حيث استقل الأول في 26  تموز\يوليو من عام 1960 بعد أن استقل الأخير في 1 حزيران\يونيو من نفس العام. وعملت الدولة الصومالية الموحدة بدعم حركات التحرر الوطني في الأقاليم الصومالية الثلاثة الأخرى. لكن لأسباب بنيوية وإقليمية ودولية لا مجال لحصرها هنا، مُني هذا الحلم بالفشل، على نحو أضحت الدولة الصومالية وفقه حالة أنموذجية لفشل الدولة القُطرية.

منذ ذلك، ارتد الصوماليون عن الحلم الوحدوي وعادت الأقاليم الاستعمارية الخمسة بكياناتها الوطنية القُطرية -مع اختلاف صيرورات كل بلد وتجربته، باختيار جيبوتي عدم انضمامها إلى الصومال الكبير بعد نيلها الاستقلال في عام 1977، بالرغم من أنها نالت الاستقلال من فرنسا بدعم من الجمهورية الصومالية. كما تراجعت صوماليلاند عن الوحدة بعد الحرب مع النظام العسكري وإعلان عودتها إلى حدودها الاستعمارية في عام 1991، بينما بات صوماليو المقاطعة الشمالية الشرقية في كينيا مواطنين في الدولة الكينية بصفة رسمية. أما صوماليو إثيوبيا، فمع أنهم عانوا من عُسر تشكّل الدولة الأثيوبية، إلا أنهم باتوا يمتلكون اليوم إقليمًا فيدراليًا خاصًا بهم، ضمن دولة إثيوبيا الفيدرالية الحالية. ثم بقي الصومال الجنوبي والذي يعيش واقعه القبلي وانقساماته الداخلية مع خطب رومانسية القومية التي ما تفتأ النخب السياسية هنالك تلقيها على مسامع الشعب الصومالي في المواسم الانتخابية.

أجد هذه الخلفية مهمة لفهم رمزية المظاهرات في مدينة لاسعانود، وإلى فهم النقاش المتجدد حول هوية الدولة الصومالية، وذلك لكونها مدينة تتكثّف فيها تعقيدات التاريخ السياسي الحديث للدولة الصومالية، وتفصح الكثير عن تناقضات بنائها وتحولاتها التاريخية؛ سواءً بشكلها الاستعماري الخرائطي، أو تجربة الوحدة القومية بين صوماللاند والصومال، التي استمرت في عام 1960-1991، أو من ناحية وضعية الـ"دي فكتو" القائمة بعد إعلان انفصال صوماللاند.

تقع المدينة على منطقة حدودية بين اثيوبيا والصومال وصوماللاند الحالية، وكما بيّنتُ بشكل مفصل في دراسة نشرُتها مؤخرًا في دورية "سياسات العربية" المحكمة، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان "فهم انفصال صوماليلاند: تأريخ تشكّل الدولة الصومالية وإخفاقها (1960 - 1991)" ، أنهكت إشكالية مسألة النزاعات الحدودية قدرات الدولة الصومالية الموحدة، حين دخلت حروبا مع دول الجوار (كينيا واثيوبيا)، ومع نفسها (الجزء الشمالي آنذاك)، بسبب الصراع على التقسيمات الحدودية الاستعمارية، وانتهى في الأخير  إلى انفصال صوماللاند في 1991، بعد حرب مريرة استمرت عقدًا من الزمن.

منذ ذلك الحين، تمارس صوماللاند السيادة على الحدود الاستعمارية لإقليم صوماليلاند البريطاني. وتقوم شرعيتها بتوفيرها الشروط المعيارية للدولة الحديثة: احتكار وسائل العنف الشرعيّ. وحدود سياسية وجغرافية يُمارَس الاحتكار ضمنها. وثالثا، شعب يقطن ضمن هذه الحدود يتشكل من العشائر الشمالية ضمن الحدود الاستعمارية.  ولتوطيد شرعيتها الداخلية في الحكم، قادت "الحركة الوطنية الصومالية" التي قادت فك الارتباط مع الصومال في عقد سلسلة من المؤتمرات للعشائر الشمالية بدءًا فيما يُعرف "بمؤتمر برعو" في أيار/ مايو 1991. وأُعلِن في مخرجاته بنود رئيسية ثلاثة، أولها: إعلان إعادة استقلال صوماليلاند عن الصومال والعودة إلى الحدود الاستعمارية لإقليم صوماليلاند البريطاني. وثانيًا: توطيد السلام بين العشائر الشمالية، وثالثًا: بناء حكومة انتقالية بإدارة الحركة لمدة سنتين مع ضمان التمثيل العادل للعشائر الشمالية فيها. صحيح أن الحركة نجحت في ضمان التمثيل للعشائر الشمالية، حيث شارك فيها جميع المشيخات والزعامات العشائرية الشمالية في تلك الاجتماعات لإعلان انفصال صوماللاند. وانتقلت البلاد إلى النظام الديمقراطي والانتخاب المباشر فيما بعد، وعملت دستورًا تم الاستفتاء عليه من قبل الشعب، (وإن كانت تثار أسئلة وشكوك حول نزاهة نتيجة الاستفتاء) لكن الدولة الوليدة نجحت على نحو لافت ببناء أجهزة تشريعية وعسكرية وقضائية خاصة بها، بالإضافة إلى اعتماد عملة وجواز سفر خاص بها. إلا أنه رغم كل ذلك، ظلت معزولة خارجيًا وغير معترفة من قبل المجتمع الدولي وهيئاته، مع الرغم من تواجد بعض السفارات والقنصليات الأجنبية في العاصمة هرجيسا لدول تتعامل معها كأمر واقع.

المأخذ الأساس في النهج الذي استمرت فيه صوماللاند في العقود الثلاثة الأخيرة هو عدم نجاحها الجذري في تكريس أسس البناء الوطني وارتهانها إلى الولاءات العشائرية بدل بناء دولة أمة ينتمي إليها المواطنون على أساس المواطنة. وأدى ذلك إلى بروز معادلة الأطراف المهمشة في مقابل المركز العشائري المهيمن (قبيلة إسحاق) في مؤسساتها ومختلف هيئاتها السياسية، وهو المرض العضال الذي قضى على حلم الدولة القومية الصومالية، حيث تتصارع العشائر للاستحواذ على السلطة والمناصب بوصفها ريعًا يتوجب تقاسمه بالمحاصصة العشائرية.

 نلمس خطورة هذا المنحى على بقاء الدولة نفسها من تراجع بعض الزعامات السياسية الممثلة لعشائر الأطراف من فكرة استقلال صوماللاند بسبب الشعور بالتهميش السياسي، فعلى سبيل المثال، يكاد يكون ترحال السياسي والأكاديمي الصومالي المعروف علي خليف غلير ذهابا وإيابا بين خياري صوماللاند والصومال صورة توجز وضع النخب السياسية في إقليم سول الذي شهدت عاصمته المظاهرات، والذي ينتمي إليه. لقد شارك غلير في بداية الأمر في مؤتمر اعلان انفصال صوماللاند كجمهورية مستقلة عن الصومال. ومن ثم التحق بجهود مؤتمر "عرتا" الجيبوتي عام 2000 لبناء أول حكومة صومالية انتقالية، وأصبح رئيس وزراء فيها، ومن ثم عندما لم تنجح مساعى بناء نظام سياسي ناجح في الصومال في ذلك الوقت، قرر في عام 2012 تأسيس كيان سياسي خاص بعشيرته يدعى "خاتمو"، على أمل أن يصبح عضوًا في الولايات الفيدرالية الجديدة، بحكم أن الدستور الصومالي يمنح حصصًا متساوية للعشائر. وفي النهاية أخفق في هذا المشروع على أرض الواقع، وآثر بأن يرجع لقبول مشروع صوماللاند السياسي حاملا معه مطالب إجراء إصلاحات دستورية تتيح له هامشًا سياسيًا موسّعًا لعشيرته.

بلا شك، يسيطر في إقليم سول شعور بالتهميش تحت حكم صوماللاند (يشاركه معها إقليم سناغ، وإقليم أودل). إلا أنه صراع يدور على عدة مستويات مركبة، ويتقاطع مع الديناميكيات السياسية، والاجتماعية، والعشائرية، والإقليمية، والوطنية. ويتجلى الوجه العشائري للصراع العابر للحدود الوطنية أن نوابًا صوماليين في كينيا وإثيوبيا تربطهم أواصر عشائرية في الإقليم ينادون بضرورة استقلال الإقليم عن صوماللاند بحجة "الصومال الكبير"، في حين هم على أرض الواقع قبلوا بأن يكونوا جزءًا من دولٍ قُطرية جارة ومستقلة.

تؤكد المظاهرات الشعبية الجارية فكرة تختنق في ركام هذا النقاش وهو سؤال مرجعية الدولة في السياق الصومالي من ناحية، ومن ناحية أخرى غياب أو تآكل فكرة الاجماع على الدولة لدى سكان الإقليم، وهو أمر له دلالة رمزية ترجع لذاكرة نضالهم ضد الاستعمار البريطاني ورفضهم للحدود الاستعمارية.

وقد أحدثت مجابهة السلطات الأمنية بالرصاص الحيّ للشباب الرافضين لمشروع صوماللاند السياسي المزيد من الاختناق الشعبي، ويتحتّم على الحكومة نزع فتيل التوتر الحاصل عبر محاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين وتقديمهم للعدالة، ووقف الأمننة في الإقليم وسحب الجيش من المدينة إلى ثكناته، ومعالجة ثقافة الإفلات من العقاب (والتي بالمناسبة لسببها اندلعت الاحتجاجات)، ومعالجة الوضع الاقتصادي للإقليم. فأغلب الشباب المتظاهرين، يعانون من الحرمان في التعليم، وانعدام الفرص الوظيفية والخدمات الأخرى في مناطقهم. أما الاستمرار بنهج القمع فسيأتي بأحد احتمالين لن تُحمد عقبى أي منهما: أولا: تغير شكل العنف إلى اقتتال عشائري، خصوصًا في ظل حشد قادة ولاية بونتلاد لهذا الخيار بحكم الروابط الشعائرية مع الإقليم، وسعار المحرضين الداعين على العنف في السوشال ميديا في اتجاه الحرب. ثانيا: تآكل سردية صوماللاند بأنها دولة ديمقراطية وواحة سلام في شرق افريقيا، وإن كانت من دون اعتراف دولي، حسب شهادات الاتحاد الافريقي الذي للمصادفة الساخرة يرفض الاعتراف بها منذ عقود لخشيته من مزيد من التجزئة في المنطقة.

تتسم المدينة بتاريخ معقد ومركب، وتوضح التناقض بين الدولة القومية التي حلم بها جيل الصومال الأوائل والدولة القطرية القائمة حاليا بالحدود الاستعمارية

إذن، تتسم المدينة بتاريخ معقد ومركب، وتوضح التناقض بين الدولة القومية التي حلم بها جيل الصومال الأوائل والدولة القطرية القائمة حاليا بالحدود الاستعمارية. وبشكل عام لا يمكن أن يحدث أي حل طويل ودائم دون إيجاد صيغة عادلة ومرضية لسكان الإقليم. ويجب أن تدفع الأحداث الجارية إلى الواجهة سؤال التسوية التي طال أمدها بين صوماللاند وبين الحكومة الفيدرالية الصومالية. لأن هذه المناطق كما انتهت في دراستي المشار إليها في هذا المقال، ستحدد شكل الدولة الصومالية المستقبلي؛ إما كدولتين قائمتين بمرجعية الحدود الاستعمارية، أو دولة واحدة قائمة على أسس إثنية جامعة، وحتى يحسم الصوماليون هذا المسألة بشكل توافقي، يجب المحافظة على الإجماع على الدولة في صوماللاند.