28-أغسطس-2019

اللوحة للكاتب

لسبب ما ومن هذه المسافة تأخذ الأشياء أبعادًا مختلفة أو بشكلٍ أدق تغدو أكثر كاريكاتورية. أرتال من الأطفال باللون الخاكي العسكري تصطف بانضباط مزرٍ منتظرةً الأمر المضحكَ: رتلًا ترادف. يضع كل ولدٍ يده على كتف زميله الواقف أمامه حتى لو كان فرق الطول كبيرًا ثم يأتي الأمر التالي بتفخيمٍ مفتعل (يجعل من الهمزة مدّة طويلة اللفظ): آآآسبل (المقصود أسبل يدك.. يا جحش). تنهار الأيدي بتلقائية ثم تتالى الكلمات المفرغة من المعنى ضمن الشعار غير المفهوم عن الأمة العربية الواحدة ورسالتها الخالدة، وتحرير الجولان العربي السوري المحتل، وصولًا إلى الدفاع عن المجتمع الاشتراكي الموحد ضد "عصابة الإخوان العميلة". يصرخ الأطفال بشراسةٍ مفتعلة، وهم يراقبون المدرسين الأشرس، أو بشكلٍ أدق العصي في أيدي المدرسين الأشرس، لم يكن السؤال مطروحًا عن معنى ما يرددونه، إنه طقس وُلدوا فيه بدون أي مبررات، إنه ببساطة جزء من المدرسة غير مفهوم كآذن المدرسة اللئيم مثلًا. واجبٌ يتعلمونه بالعصي على الأيدي والأرجل والأكتاف و..، شراستهم المصطنعة المتفارقة مع أسنانهم اللبنية الغائبة، أو المخطة السائلة من أنوفهم، أو تركيزهم الداخلي على ما سيلعبون في الفسحة القصيرة، من هذه المسافة يبدو المشهد عبثيًا إلى حدودٍ مضحكة، أجزم أن الغالبية المطلقة كانت تجهل ما يقال لفظًا وليس معنى، من هذه المسافة يغدو التمسك بهذه الطقوس مجرد تمسك بإثبات السطوة، هنا لا فرق في استبدال الأمة العربية الواحدة بأي عبارة مثل العدسة الموشورية المسطحة، أو المربى المشمس المحمض. أي عبارة ذات نسق إيقاعي وفيها صفات تصلح لإثبات القوة، أنت تربي هذا القطيع على إطاعة الأوامر، والأخطر أن الأطفال فقدوا أي قدرة على التساؤل أو حتى الاستغراب.

بعد عدة سنوات دخلت كلية الطب في جامعة دمشق، أمام المدخل الرئيسي ما بين قسم كليات الأداب وكلية طب الأسنان هناك دباباتان، أجل دباباتان عاطلتان في فسحة عرفت لاحقًا أنهما مخصصتان للتدريب العسكري يوم السبت، وبسرعة يكتشف المرء وجود عددٍ آخرَ من الدبابات موزعة على كليات الطب والآداب، لا أنسى دهشتي الأولى من فكرة وضع الدبابتين أمام المدخل، السبطانة مرفوعة وموجهة على الداخلين بسذاجة اعتباطية، وأمام المدخل هناك درج شهير لقسم تعليم اللغات حيث تجلس فتيات باذخات الجمال في استعراضٍ شهي موجع، وغالبًا ما يلتقطن أزواجًا بسرعة "تحت عين السبطانة"، التي سرعان ما تعودنا عليها جميعًا.

في ذات الفسحة بقرب الدبابتين العاطلتين كنا نضطر صباح كل سبت للاجتماع في ثياب التدريب العسكري التي تمسخ بشكلٍ تلقائي شيئًا من مخ لابسها، لنغدو أكثر بلاهة واستهتارًا كدفاعٍ مؤقت تجاه هذا الذل الأسبوعي. يبدأ التدريب غالبًا بشعارات لا تختلف إلا قليلًا عن تلك التي كنا نرددها في الطفولة، مع حذف القسم الخاص بعصابة الإخوان العميلة، (لم أفهم لم تم حذف هذا الجزء فجأة، كما أني حتى اليوم لست واثقًا هي عميلة لمن!؟ ولكن من الصعب تخيل لفظ "عصابة الإخوان" بدون صفة العميلة). يجتمع الطلاب الذكور المهانون من خسارة يوم السبت الذي تغيب فيه الزميلات، ويشكون فكرة معاناتهم كذكور، حتى توصلنا بعد نقاش سفسطائي إلى أن التدريب العسكري هو نوع من العقاب لنا لعدم ابتلائنا بالدورة الشهرية التي تستمر حتى أربعة أيام عند زميلاتنا وتتوزع علينا في أيام السبت. أكثر ما كان يزعجنا على الإطلاق ليست الإهانات أو الرياضة السخيفة أو الوقت الضائع، بل منظر أحد زملائنا القادم من "الجولان العربي السوري المحتل"، كما كان يردد بتلقائية راديوية، عندما يُسأل عن مدينته، كان الزميل يدخل إلى الجامعة ونحن نقفز ببلاهة في تماريننا الغبية، في تلك اللحظة لم يكن الجولان العربي السوري المحتل الذي يأتي منه هذا الزميل ما يشغل بالنا، ولا عدم مشاركته لنا لهذا الذل السخيف أيضًا بحجة معاقبة "الكيان الصهيوني" له لو شارك في "تدريبات عسكرية" في سوريا، كل ما كان يشغل بالنا وقتها هي سرّة الفتاة المغوية التي يحيط بخصرها، تلك السرّة تحديدًا كانت تفاقم من المأساة، للحظة قصيرة تمثل السرة النقيض لوضعنا كعساكر مؤقتين، أو كعبيد بشكلٍ أدق باسم الدفاع عن قضايا كبرى، بمعنى آخر كانت تكثيفًا لفكرة الحرية والشهوة، تخيلوا هذا التمازج الرهيب بين الفكرتين، لو فكرنا بهدوء ستكون تلك السرة رمز ثورة متخيلة على وضعنا، ستكون مشعةً تشيط القلوب على علم ثورتنا المتخيلة. هذه التفارق يغرس فينا ما يشبه الحقد على زميلنا "السافل" المتنعم بفرق العملة ما بين الشيكل والليرة السوري. بالنسبة لزميلنا، غالبًا لم يكن يفكر في الأمر على طريقتنا بل كان يركز على رؤيتنا له وهو "يشبك" صيدًا ثمينًا، يلهث وراءه غالبيتنا، لم يكن موضوع الجولان حاضرًا إلا كدرسٍ يعود للسطح عندما يُضطر أن يكرره عن ظهر قلب ٍ ليثبت ولاءه، ولكن لحظة أعلم أن أغلبكم يبتسم ويفكر هل فعلًا كانت السرة مهمة ومغوية إلى هذا الحد، انتبهوا أني لم أصفها شكليًا، وإنما وضعت صفاتٍ عمومية كالإغواء أو الإشعاع. حقيقة قيمة السرة وأثرها يأتي من وضعنا الشخصي، فلو شاهدت تلك الفتاة بسرتها في الصالحية أو شارع الحمراء لاعتبرتها شيئًا جميلًا عابرًا، لكنها هنا تأتي كمجاز شعري يتغير فيه معنى الكلمات بتغير موقعها وعلاقاتها ببعضها، السرة في المعتقل رمز شعري، يصلح أن تُقبله بوقار وتبكي شهوتك له في الليل، أما السرة في الشارع حدثٌ جميلٌ لا أكثر. بكل الأحوال بعد أن عبرت السرة والطفيلي الذي بجانبها بقليل عدنا كلنا إلى علبة السردين ذاتها بأفواهٍ أشد ملوحةً.

تقدم الزمن قليلًا وقرّر الرئيس الشاب وقتها أن يجدّد البيعة لنفسه، وبدأت هيستيريا شعبية غريبة، صور له توزع في كل مكان، حتى أبواب المراحيض العمومية لم تسلم من صوره، أغاني بكل الأشكال الممكنة، مراهقون يشاركون، وشيوخ في دكاكين بعيدة ومنزوية يضعون الأغاني الغبية التي تؤله الزعيم، طاقة غريبة ورغبة في الصراخ تملأ الكثير من البشر. كان السؤال الأهم بالنسبة لي وقتها، هل تخرج هذه الحشود من الخوف فقط؟! هل هذه رغبة في الخروج فقط، أم أنها هستيريا جماعية؟! كنت أحس وقتها بغيظٍ شديد، كيف لكل هؤلاء "الضحايا" أن يشاركوا لوقتٍ متأخر من الليل بمسيرات أو حفلاتٍ احتفالًا بالتجديد لرئيس أزلي ما زال يحكم تحت جثة أبيه المحنطة! في تلك اللحظة توقعت أن يأتي وقتٌ سيخرج فيه نفس الناس وبنفس الهيستريا ليهاجموا ذلك الرئيس المتضخم أكثر من جثة أبيه المحنطة. وفعلًا جاء هذا الوقت وخرج الملايين ولكن عصي المدرسين الأكثر شراسة بقيت تلوح في البعيد مع حفنة الشعارات الفارغة، ذلك العنف المختبئ صعد بأشكالٍ مروعة تحت ضغط العنف الممارس من أجهزة الدكتاتور، وطغى على أية خيارات بديلة، تلك العصاة المرعبة انتقلت من الذاكرة إلى أيدي البعض من الجانبين، وتغير شكل بعض الشعارات دون أن يتغير خواؤها، حتى تلك السرة المغوية باتت نقطة حبر في ذلك الرسم الكاريكاتوري البعيد الذي يُضحك ضحاياه فقط.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحكة

إسعاف- رمسيس

دلالات: