07-يونيو-2022
فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

هذه العين التي تقرر للعدسة ما تلتقطه سرعان ما تحول الناس في المشهد إلى أشياء. أو لنقل إنها تحول الأشياء أندادًا للناس. فلا حاجة بنا ونحن ننظر إلى هذه الصور للدخول في متاهات فلسفية. الأشخاص الذين تلتقطهم عدسة غطفان غنوم يبدون جزءًا من المكان الذي تم ضبطهم فيه. حتى حين يكون الشخص فتاة رشيقة والثوب الذي ترتديه مبهجًا. صور غطفان تقول لي إن هؤلاء لن يبرحوا إلى أي مكان. وإن اكتشافهم في هذه البقعة من الأرض يشبه اكتشاف المرء لصخرة نحتتها المياه ولم تبرح مكانها رغم كل النحت الذي أصابها وأمرضها.

شخصيات غطفان غنوم لا تستعد للكاميرا. تبقى على سجيتها، وقصاراها أن تنظر مستفهمة عن طبيعة الكائن أو الشيء الذي اقتحم المشهد من خارجه

يبدو هذا التقديم انتقاصًا من قيمة الأشخاص الذين تلتقطهم العدسة، إلا أن المظاهر خادعة. فالوجه الذي يبرز تجاعيده على صفحة الصورة لا يفصح عن خطاب. عليك أن تخمن هذا الخطاب كما تخمن ما جرى لشجرة انشق بطنها، أو لسهل شاسع اكتسب لونًا ذهبيًا. الأشياء في هذا العالم تملك أدوارًا مقررة. لأن غطفان غنوم نادرًا ما يصور مملكة البشر. أي بيوتها وغرف نومها. هناك حيث بوسع البشري حتى لو كان نائمًا أن يكون سيدًا لسريره وملاءاته واللوحات التي يعلقها على جدران غرفة نومه. في الخارج الذي يلتقط غطفان نبضه، يبدو البشري ضئيلًا، لكنه معمر، في الوقت نفسه. فالظاهرون في صوره لا يفصحون عن مكان آخر يضمهم. هم هنا الآن ومنذ الأبد، أي منذ ما قبل أن تلتقطهم عدسة المصور، وهم باقون هناك بعد الانتهاء من التصوير.

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

بوسع المرء أن يقرر أن شخصيات غطفان غنوم لا تستعد للكاميرا. تبقى على سجيتها، وقصاراها أن تنظر مستفهمة عن طبيعة الكائن أو الشيء الذي اقتحم المشهد من خارجه، وهو الكاميرا وحاملها في هذه المعادلة. لكنها في الغالب لا تعير الاقتحام أكثر من التفاتة. وأغلب الظن أنها لن تعير أي مقتحم آخر أكثر من التفاتة استفهام. ذلك أن الشجرة لا تهرب راكضة من مقتحم عزلتها حتى لو كان حطّابًا. هل يعني هذا كله أن هذه الكائنات، الشجر والطرقات والحقول والناس، مستسلمة لأقدارها التي تقع أحكامها خارج قدرتها؟ الأرجح أن لا، فعلى نحو من الأنحاء، يعيد غطفان غنوم استخراج قيمة المدافن، ذلك أن صوره تشبه شواهدها. فبانتصاب شواهد المدافن على ناصية الاجتماع البشري وبجواره، يستطيع الموتى أن يخلدوا أثرهم، في الذاكرات أولًا وفي الشواهد المنقوشة التي تحرض من نسي على التذكر ثانيًا. الموتى يقيمون بيننا، وهم لا يتحللون، لأن القبور تجعلهم الأكثر ثباتًا بين كائنات متقلقلة.

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

وإذ يحدث أن يكون غطفان غنوم سوريا، فبوسعي أن أقوّله ما قد لا يريد ادعاءه. فالسوري بين الكائنات المعاصرة هو الذي أُجبر على النزوح عن موطنه، فغدا اجتماعه بلا مقابر. السوري بين الكائنات المعاصرة هو الغريب، لأن لا موتى يقرأ لهم الفاتحة والذكر ويرفع لهم الصلوات في مقبرة المدينة التي يعيش فيها. وعلى هذا، هو كائن يفتش عن نفسه، عما يثبت أنه منظور ومرئي. وأغلب الظن أن احتراف الفنون على أنواعها هو وسيلته الأنجع ليثبت أنه حي.

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا