18-يوليو-2022
تلك العتمة الباهرة

حين نشرت وكالة الفضاء الأمريكية أول صورة من تلسكوب جيمس ويب، لم أفهم شيئًا. ارتبكت. لم أعرف كيف أبدأ، وأين أنظر، وماذا عليّ أن ألاحظ. لعلّي لست وحيدًا، خاصة في هذا الجزء من العالم حيث لا علاقة مادّية تربطنا بالفضاء وشؤونه ومشاريع غزوه واستكشافه، باستثناء القليل الذي يعرفه البعض منّا عن السبق السوفييتي الذي أثار جنون الأمريكيين في الستينات، وذلك العالِم النازيّ الذي ساعد في إطلاق برنامج الفضاء الأمريكي حتّى حطّ آرمسترونغ وصديقه على القمر. أما في الفضاء الرقمي فينشط عالم فضاء عربيّ أو اثنان، تخترق الأجواء تعليقاتهم العامة اللافضائية، التي تنكّبت طريق العلم وباتت أقرب إلى ثقب التنمية البشرية الأسود، حيث يستمر البحث عن أسباب ضياع الشباب العربي، وسبر أسرار تنامي الشهرة الطاغية لروبي. 

لذلك، ومنذ صبيحة الثلاثاء الماضي، خصصت بعض الوقت للجلوس أمام الصور الخمسة، أقرأ عنها قليلًا، ثم أعود إليها لعلي أتمكّن من تقدير المشهد على نحو أفضل. هوّن عليّ هذا الشعور بالجهل المطبق ما قرأته عن أنّ العديد من علماء الفضاء والفلك قد ذهلوا من هول الصور والتفاصيل التي كشفت عنها والإجابات التي قدّمتها، إذ أتت فوق المتوقّع بدرجات عديدة، بعد فترة طويلة من الترقّب والشكّ بمصير مشروع تلسكوب جيمس ويب بأكمله، والذي استمرّ العمل عليه قرابة 30 عامًا، وبلغت تكلفته زهاء 10 مليارات دولار أمريكي. كنت سأقول "فقط"، باعتبار أن هولَ هذه الأرقام نسبيّ جدًا، بالنسبة لنا بالأخصّ، إذ إنّ 30 عامًا عند ناسا كمئة سنةٍ ممّا نعدّ نحن أو أكثر، وما وضعه الكونغرس الأمريكي من أموال في هذا المشروع، لم تذهب سدى، إذ صبّت بالمحصّلة في خدمة مشروع الهيمنة الأمريكي، وتأكيد تفوّق الـ"نحن" كما يراها البيت الأبيض وعبّر عنها بايدن في فعالية الكشف عن الصورة الأولى. 

Joe Biden revealing the image of The James Webb Space Telescope

وصف الإعلام الأمريكي نجاح تلسكوب جيمس ويب بعد طول انتظار، بأنه "قصّة ملحميّة". فقبل هذا التلسكوب، عرفت البشرية مرصد هابل، وهو تلسكوب يدور حول الأرض، أطلق عام 1990 خارج الغلاف الجوي، ويبعد عن الكرة الأرضية حوالي 600 كم (فقط). لكن ناسا وناسها تطمح إلى "بلوغ الأسباب"، وبناء صرحٍ يكشف المزيد من خفايا هذا الكون وأسرار نشأته الأولى. وهكذا بدأ التفكير بمرصد "جيمس ويب"، وهو تلسكوب ضخم يشتمل على عدد كبير من التقنيات الفريدة، تجعله أقوى من مرصد هابل بأكثر من 100 ضعف، ويوفّر صورًا غير مسبوقة عن الآفاق الغامضة، عبر الغبار والسحب الكونيّة، تجيب عن أسئلة تكاد تكون وجوديّة، تضيء عتمة كانت باهرة، وأصبحت أكثر إبهارًا من أي وقت مضى.

بدت لي المقارنة مع تلسكوب هابل نقطة انطلاق مفيدة لتقدير "المعجزة" التي تفتّق عنها "جيمس ويب" (وهابل وويب أسماء علماء أمريكيين في ناسا بالمناسبة). عرفت مثلًا أن التلسكوب الجديد يبعد عن الأرض مليون ميل تقريبًا، ويدور في مدار حول الشمس، بخلاف هابل الذي يدور قريبًا حول الأرض. أمّا في الحجم، فلك أن تتخيّل أن لمرآة تلكسوب جيمس ويب درعًا خاصًا لحمايتها من الحرارة الزائدة، بحجم ملعب كرة تنس. أما المرآة التي يحميها هذا الدرع فهي بقطر 6.5 متر، بينما يبلغ قطر المرآة الرئيسية في مرصد هابل 2.4 متر.

مقارنة حجم جيمس ويب بتليسكوب هابل
المصدر (NASA)

 

ثمة الكثير من المعلومات الأخاذة حول "جيمس ويب". منها مثلًا أنه اشتمل على عشر تقنيات جديدة على الأقل، وهو رقم قياسيّ بالنسبة لأي مشاريع ضخمة سابقة في ناسا، يقتصر فيها عدد التقنيات الجديدة على اثنين أو ثلاثة على الأكثر. وهذا ما جعل مشروع جيمس ويب يبدو مستحيلًا في نظر كثيرين، كيف لا وقد تعثّر طويلًا إلى حدّ التفكير بقطع التمويل الحكومي عنه، بعد تضخّمٍ مفرط بتكلفته، من مليار دولار إلى عشرة، وتأخر محرجٍ في موعد إطلاقه، من 2007 إلى 2021.

إلا أن هذه المعضلة التي كادت تودي بالمشروع برمّته قبل 10 سنوات لم تكن علميّة بقدر ما كانت إداريّة. وهنا تتجلى المعجزة الأخرى في حكاية تلسكوب جيمس ويب الملحميّة. فبعد أن ذوت همّة العاملين فيه، ودخلوا في دائرة مفرغة من الأعطال المؤدية عامًا بعد عام إلى لحظة الصفر والشعور بدنوّ أجل المشروع وفشله قبل انطلاقه، قرّرت ناسا منحه ما بدا أنّه فرصة أخيرة، فطلبت المعونة من رجلٍ مخضرم فيها، وهي تدرك أنّ إخفاقه لو حصل، سيكون دليلها النهائي القاطع على حتميّة قطع الأمل عن رؤية "جيمس ويب" في الفضاء.

هذا الرجل هو غريغ روبنسون، الذي تعلّق مستقبل تلسكوب ناسا الجديد برفضه أو قبوله مهمّة إدارة المشروع ونقله إلى فلك الأمان، وقطع تلك المسافة الهائلة التي تفصل نجاح "جيمس ويب" عن فشله، والبالغة 1.5 مليون كم عن سطح الأرض. وبالنظر إلى أهمية النتائج التي سيتمخّض عنها المرقاب العظيم خلال السنوات المقبلة، فإنه حريّ بنا ربما أن نعرف لهذا الرجل قدره، وأن نسبر شيئًا من قصّة مدير برنامج "جيمس ويب" الذي قلب فشلًا محتومًا، إلى إنجاز ملحميّ لم يكن بالحسبان قطّ أن يبلغ هذا المدى، بعد سنوات مديدة في التيه.

غريغ روبنسون
غريغ روبنسون (WSJ)

ارتبكت إدارة "ناسا" بعد أن اعتذر غريغ روبنسون عن التدخّل في مشروع "ويب"، وتطلّب الأمر محاولات عديدة لإقناعه. تردّدُ الرجل في قبول المهمّة كان بمثابة دليل جديد على القلق من مغبّتها. فلم يفكّر رجل مثله، ذي سجلّ نظيف وحافل بالإنجازات في الوكالة على مدى ثلاثين عامًا، في أن يقحم نفسه في مشروع يحتضر، ويتدخّل في إنعاش نظام يتألف من 344 نقطة انهيار حاسمة (single-point failure) أي 344 نقطة اختلال أيّ منها يعني تداعي المشروع بأكمله. مجددًا، لتقدير ما يعنيه ذلك ليس علينا، رعانا الله، سوى أن نذكر أن مشروع إرسال مكوك إلى المريخ يشتمل على 70 إلى 80 نقطة انهيار حاسمة. أضف إلى ذلك مسألة التقنيات العشرة الفريدة التي يقوم عليها مشروع ويب، وستبدأ ربما بمشاركتي الشعور بأن الأمر برمّته أقرب إلى الخيال.

لكن قرار روبنسون بالتدخّل الجذري كان في مكانه، وبفضلٍ يعود نصيب كبير منه إلى هذا الرجل الأسمر، المتحدّر من أسرة عملت بالسخرة في حقول التبغ، (وفريق من 10 آلاف رجل وامرأة، وعدة مليارات من الدولارات)، تسنّى لنا أن نشاهد عناقيد مجرّات تشكلت قبل عدة مليارات من السنين، وسديم كواكب بعيدة، ونجومًا تحتضر، وأخرى بلحظة ميلاد في حضائن نجميّة ساطعة، في قطعة من الفضاء، قالوا لنا إن حجمها بالنسبة إلى حجم الكون، هو بحجم حبّة الرمل على مدّ ذراع كاملة، كانت قبل جيمس ويب محض عتمةٍ مجهولة. أمّا آلاف النقاط المضيئة في ذلك الديجور الفضائي الضئيل الذي تظهره الصور، فكلٌّ منها يمثّل مجرّة، لا نجمًا كما يظن الرائي للوهلة الأولى، وكلّ مجرّة تحوي بأقل تقدير 400 مليار نجم. وبما أننا نسمع كلمة "مليار" هذه الأيام كثيرًا حدّ ابتذال معناها، فمن الجيّد أن أقف عندها برهة هنا، وأتذكّر أن المليار ألف مليون، وأن مجرّد العدّ حتى المليار يستغرق 100 عام على الأقل، لو افترضنا أننا سنعدّ 24 ساعة في اليوم! وفوق ذلك كلّه، يذكّرنا من عرضوا صور جيمس ويب وشرحوها بأننا لم نرَ بعدُ سوى ما يؤول إلى ذرّات بسيطة بالنسبة للكون غير المشهود. 

يقول لنا غريغ روبنسون وأصحابه، بتواضع العلماء لحظة إدراك كسوف معرفتهم أمام حجم المجهول الذي تضاعف أمامهم، إن هذه الصور خطوة أولى ضمن مهمّة طويلة الأمد، وأن عين "جيمس ويب" ستحدّق وتطوف في الفضاء على مدى 20 عامًا تالية. وتخبرنا ناسا أن صورها التالية ستجيب بشكل جزئي وظنّيّ عن أسئلة كبرى عديدة، وتشرّع الأبواب على أخرى لم يكن بالمتخيّل طرقها من قبل. أما اليقين الوحيد في صور جيمس ويب، فهو أنه لا يمكن التعاطي معها دون المرور في حالة مشتركة وعامّة من الذهول الذي تلقيه في روع الرائي، حين يتذكّر في كلّ مرّة وهو في حضرتها أنّ كلّ ما يراه ويحاول إحصاءه لا يعدو مقدار خرم إبرة من محيط، بل أقل. 

 

 

يمكنك على هذا الرابط استعراض صور تلسكوب جيمس ويب مع شرح مبسّط لها على موقع ألتراصوت، كما يمكن مشاهدتها عبر موقع "ناسا" الرسمي هنا.