25-يناير-2022

من الفيلم (IMDB)

ليست المسألة أن تدلي بدلوك في نقاش يشترك فيه مئات الألوف من مستخدمي الإنترنت في بلاد العرب. في مثل هذه الحال، يجدر بك أن تتجنب الدخول في نقاش أحادي النظرة لا يخرج من إسار نقطة واحدة: نحن العرب لا نشبه الذين ظهروا في الفيلم والشخصيات التي جسدوها. والردود أيضًا لا تخرج من هذا الإطار، وتريد في مجملها أن تقنع الجمهور المعترض بأننا نحن العرب نشبه هؤلاء الذين ظهروا في الفيلم وجسدوا شخصياته. والحق إنني لا أرى في مثل هذا النقاش ملمحًا واحدًا على قدر من الأهمية.

نحن العرب، إذا كنا ما زلنا نستطيع أن ننسب أنفسنا إلى نحن، لم نعد أصحاب صورة واضحة. لقد تعددت صورنا التي قدمناها وصدرناها عن أنفسنا حتى الجنون

نحن العرب، إذا كنا ما زلنا نستطيع أن ننسب أنفسنا إلى نحن، لم نعد أصحاب صورة واضحة. لقد تعددت صورنا التي قدمناها وصدرناها عن أنفسنا حتى الجنون. نحن العرب صدرنا مقاتلين ملتحين يذبحون الناس أمام كاميراتهم المصنوعة في بلاد ضحاياهم المذبوحين، ونحن العرب صدرنا صورًا للقاهرة تعج بمقاهيها وحياتها الحديثة، وحين نشاء أن نقارن، تحضر إلى أذهاننا مدن حديثة من قبيل دبي أو الإسكندرية أو بيروت، لنقارنها بباريس ونيويورك ولندن وروما.  ونحن العرب أيضا نختلف على تأييد أو إدانة طبيب عذب وقتل مئات المساجين، لأنه يظن نفسه معاصرا ويحسبهم من صناعة الماضي. ونحن العرب أيضًا نتسقط أخبار السجون التي يقبع فيها خيرة شبابنا. ونحن العرب ندعي أن اللاجئين، العرب أيضًا، الذين يموتون بردًا وظلامًا يسرقون خيراتنا ويؤخرون تقدمنا نحو جنة الأرض.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Don’t Look Up".. نقد العلم وتجريحه

كل هذه الصفات، وغيرها كثير ومتناقض، تحضر في ذهني وأنا أراقب هذه المعمعة من الأحكام الجاهزة على فيلم "أصحاب ولا أعز". يستوي في إطلاق الأحكام المدافعون عن الفيلم والمعترضون عليه. ذلك أن المدافعين عن الفيلم ينطلقون من دفاعهم عن حياة معاصرة تشبه مثيلاتها في كل العالم، المتقدم إذا شئتم، فيما المعترضون يريدون التحصن بالمكان والزمان اللذين يظنان أنهما لا يجريان في أي اتجاه. والحق، فإننا ما إن نطل على جمهورنا من وراء شاشة من صناعة سامسونغ، ونتعامل مع منصة من طراز نتفليكس، نكون قد سلمنا آخر أوراق استقلاليتنا المدعاة. حتى لو كنا نرفع عقيرتنا بخطاب يدعي هزيمة الإمبريالية ونتغنى بصواريخنا التي تطال ما بعد بعد حيفا. نحن ندين لهذه المعاصرة بما تبقى لنا من وسائل لإثبات أننا ما زلنا على قيد الوجود. نتقاتل على تويتر وفيسبوك، وبعضنا يحمل ادعاء أننا لا نشبه غيرنا من شعوب الغرب. وبعضنا الآخر يحسب أن التعلق بهذه الوسائط قد ينجيه من الجحيم الذي يعيش فيه بعد زمن، قد يطول وقد يقصر بحسب اجتهادنا.

في حقيقة الأمر، نحن محاصرون من جهتين. جهة أولى تريدنا أن نحيا الحياة المعاصرة بكل بؤسها، وجهة أخرى تريدنا أن نعيش الحياة الماضية بكل جهلها. وبين الجهتين ثمة أوجاع وصعوبات ومعاناة لا تحصى، وعلينا أن نتعامل معها يوميًا.

السينما اليوم لم تعد قادرة على صناعة رأي عام. باتت مجرد وسيلة لتمضية أوقاتنا التي لا نحسن أن نصنع فيها شيئًا أو ننجز أمرًا

أصحاب ولا أعز، ليس فيلمًا يمكنه أن يغير في أطباعنا وأوضاعنا شيئا. هوليوود نفسها لم تعد تملك سلطة أن تغير في مسالكنا قيد أنملة. السينما اليوم لم تعد قادرة على صناعة رأي عام. باتت مجرد وسيلة لتمضية أوقاتنا التي لا نحسن أن نصنع فيها شيئًا أو ننجز أمرًا. لم يعد ثمة فرنسيس فورد كوبولا الذي يساهم في صناعة الرأي العام الأمريكي، وليس ثمة بريجيت باردو التي تقرر لنا بوجهها وشفاهها معايير الجمال النسائي، وليس ثمة فيدريكو فلليني الذي يقول لنا بشريط واحد أن العالم خارج السينما في وسعه أن يكون مختلفًا وأنه أيضًا قد يكون ممتعًا ومضحكًا وساخرًا وحزينًا وعميقًا. اليوم نحن نشاهد خيبة السينمائيين كل يوم. لوس أنجلس أو باريس أو روما التي كانت مدنا مشتهاة في سبعينات وستينات القرن الماضي، تبدو اليوم جحورًا للتعب والألم وانعدام الأمل. وحين تصور لك نتفليكس فيلمًا عن صناعة الفنون في لوس أنجلس مثلا، فليس بوسعك إلا أن تفاجأ بوجود منازل كتلك المنازل، التي إن وصفناها بالساحرة لا نفيها حقها من السحر، وتتعجب من وجود هؤلاء الناس الذين يسلكون ويعيشون على نحو لم نألفه ولن نألفه، لأن الألفة معه مكلفة إلى الحد الذي لا تقوى مواردنا على التفكير باعتمادها. هذا العالم البعيد البعيد هو العالم الذي ما زال قادرًا على التأثير، لكنه لا يضخ أوهامًا بالسعادة ولا يرسم معالم الطريق التي يتوجب علينا أن نسلكها لنقف عند عتبته. جل ما يضخه لنا هذا العالم لا يتعدى الإيحاء بأن سكانه لم يعودوا يروننا منذ زمن.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Spotlight".. السينما في مواجهة خطايا الكنيسة

ما الذي يُعترض عليه في فيلم "أصحاب ولا أعز"؟ علاقات غرامية مفتوحة؟ حديث عن أجسامنا وأعضائنا الحميمة؟ علاقات مثلية؟ هذه كلها من لوازم البؤس الذي تفرضه علينا الحياة المعاصرة بحسب ما آلت إليه. وما الذي ندافع عنه في فيلم أصحاب ولا أعز؟ أن نكون أحرارًا في خياراتنا؟ من من الممثلين أوحى أنه حر بخياراته؟ من منهم يستطيع أن يواجه العالم بخياراته؟ أليسوا جميعًا يخبئون حيواتهم عن العيون، لأنهم في حقيقة الأمر غير راضين عما يعلنونه وعما يسرونه في الوقت نفسه.

ها نحن نصطنع حربًا بين معسكرين، وكل معسكر يدافع عن بؤسه. البؤس الذي يبدو أننا لن نستطيع الخروج من دوامته. سواء كنا أصحابًا ولا أعز أو غرباء في عالم يجبرنا كل يوم على العيش في غرباتنا التي تزداد ضيقًا.

اقرأ/ي أيضًا:

ثيودوروس أنجيلوبولوس.. سينما التخوم

فيلم "Tesla"... محاولة طموحة لمقاربة مخيلة عصيّة