07-فبراير-2019

جنود من جبهة التحرير الجزائرية (Getty)

أحدث ترشح اللواء المتقاعد السيد علي غديري للانتخابات الرئاسية، المزمع إجراؤها في نيسان/أبريل 2019، زلزالًا إعلاميًا على السوشال ميديا. فالرجل لا يمتلك قاعدة انتخابية، ولا يمثل أي وزن سياسي ما عدا صورة متداولة في الصحف بالزي العسكري.

في الجزائر، لا تزال صورة الجيش في المخيلة الشعبية هي صورة جيش التحرير

هذا السجال مرتبط بالرهانات السياسية والصراعاتية في مرحلة سياسية صعبة، وهذا الاهتمام يعكس الانشغال بعملية انتقال السلطة من جيل الثورة إلى جيل ما بعد الثورة، أو استمرارية الوضع القائم. في مقابل آخر ترشح عسكري سابق يثير ويعيد النقاش الأزلي والأبدي بين النخب الوطنية عن دور العساكر في الحياة السياسية، وموقع المؤسسة العسكرية في الخريطة السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: ما معنى أن تكون سليلًا لثورة التّحرير الجزائرية؟

بعيدًا عن الإسقاطات التاريخية والمقارنات الدولية والمواقف الفكرية عن الدور العسكرتاري في المجال السياسي، يجدر مراعاة خصوصية البيئة الجزائرية في التداخل والتقارب الموجود بين الحقل المدني والحقل العسكري، والعلاقة الموجودة بينهما في إدارة الشأن العام، هذه الطرح لا يشكّل مبرر هيمنة العسكري على المدني، بل يهدف إلى الفهم، وبالتالي إمكانية تحول الجيش كباقي المؤسسات إلى البناء الديمقراطي.

السياق التاريخي لبناء الدولة الوطنية جاء بعد حرب تحريرية، تأسّس على العمل السياسي والدبلوماسي ممثلًا في جبهة التحرير الوطني، كجناح سياسي، وعملٍ مسلح وعسكري ممثلًا في جيش التحرير الوطني الجناح العسكري. عمل الثنائي سويًا خلال الفترة الاستعمارية رغم بعض الصدمات، لكن خلافات حادة حصلت خلال صيف عام 1962 بين الطرفين، حسمت قيادة الأركان الصراع لصالحها، وفي غياب الشرعية الشعبية مارس العسكر الحكم باسم الشرعية التاريخية والثورية.

تجدر الملاحظة أن قيادة الأركان لم تعتمد على عوامل الإكراه الكلي في إدارة الحكم، إذ تمكن الجهاز العسكري من إقامة علاقة واستقطاب الطرف المدني في خياراته السياسية والاقتصادية، واستطاعت القيادة أن تسيطر على مفاصل الدولة عبر عسكرة المجتمع، واختراق جهازها الأمني والبوليسي أجهزة الإدارة والإعلام والعدالة، فالجيش كان مؤسسة قوية ساهم بقوة في إقامة الدولة رغم وجود مؤسسات ثورية تتمتع بالشرعية كالحكومة المؤقتة، لكن الصراعات السياسية والجهوية والأيديولوجية أضعفت تلك الهياكل المدنية، كي يبرز الجيش كمؤسسة عصرية قوية تجمع مختلف المكونات الوطنية لها عقيدة جمهورية وطنية.

في سياق مرتبط، شكّل القبول الجماهيري النسبي للحكم العسكري غطاء سياسيًا للحكم، فلا تزال في المخيل الشعبي صورة الجيش الوطني هي الجيش التحريري، ويحظى الجيش بمكانته هذه كونه يخاطب المشاعر الوطنية ويعيد أدبيات الثورية، ويمثل التماسك والانضباط، وكونه الجهاز الأقوى في الدولة، وعبر طقوسه والبدلة العسكرية يشكّل حلم الشباب في السطو والقوة.

كانت القيادة العسكرية أو التركيبة البشرية للجيش، ولا تزال طبعًا، تنتمي إلى الطبقات الدونية والاجتماعية المحرومة، وكانت المؤسسة العسكرية خزّان الفئات المهمشة والفقيرة. المكون الجغرافي السكاني يعود إلى الريف والمدن الصغرى أكثر من المدينة، ويشكل الانتماء إلى المؤسسة العسكرية مسار الارتقاء في السلم الاجتماعي، يسمح للأفراد المنتمين إلى الجيش فرصة الصعود إلى مسؤوليات عسكرية محترمة وسياسية رفيعة، وحتى مسؤوليات مدنية بعد التقاعد، ولا تزال الأكاديميات العسكرية تفتح أبوابها للشباب الجامعي وغير الجامعي كفرص الترقي الاجتماعي – الاقتصادي، بينما مجالات مدنية شبه منغلقة ومحتكرة كالشركات البترولية والخطوط الجوية وكبرى الشركات المالية.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أنه لم يشكل الجيش الشعبي الوطني إرثًا تقليدي للفئات البرجوازية أو الأعيان الإقطاعية كجيوش أمريكا اللاتينية التي شكلت ما يسمى الأوليغارشية العسكرية، وليس عنصرًا منفصلًا ومستقلًا عن الفئات المجتمعية، فهو ليس بجيش ملكي ولم يؤسَّس وفق إملاءات كولونيالية كالتي كان من المفروض التأسيس لها حسب الاتفاق بين الحكومة المؤقتة والجانب الفرنسي لتسيير المرحلة الانتقالية، ذلك الاتفاق الذي رفضته قيادة الأركان العامة. كما أنه ليس بقايا جيش الانتداب الاستعماري في حالة سوريا، أو بقايا الجيش العثماني في حالتي الاردن والعراق، وليس مليشيات في حالة القذافي، وهو أقرب إلى الحالة المصرية من حيث التركيبة البشرية التي سمحت ببروز حركة ضباط الأحرار.

يتقاسم السياسي البيروقراطي والعسكري نقطة جوهرية هي البحث عن السلطة

أخيرًا، يتقاسم السياسي البيروقراطي والعسكري نقطة جوهرية هي البحث عن السلطة، ولم يكن السياسي التكنوقراطي يومًا معارضًا وخصمًا للعسكري، بل كان البحث عن التوافق فيما بينهما دائمًا حلًا ومخرجًا للصراع والخصومة وتقاسم السلطة، وفي الحقيقة، خصم ونقيض النظام العسكري هم الفنانون والأدباء والشعراء والرسامون والموسيقيون والنحاتون، أو ما يطلق عليهم "المثقف السياسي"، إذ يشكل العسكري في مخيلة هذا المثقف الطاعة والقيود والالتزام والخوف وغياب الحرية والثكناتية.

اقرأ/ي أيضًا: لصالح من تُشوّه رموز ثورة التحرير الجزائرية؟

قد لا يكترث السياسي البيروقراطي لغياب تلك القيم إذا مارس السلطة بشكل يسميه الديمقراطية، لكن تلك القيم هي فضاءات حيوات الفنان والأديب والشاعر والرسام، لذلك شكل الأدباء والشعراء والمثقفون جدار المقاومة والطليعة في مقاومة الانظمة العسكرية الشمولية في أمريكا اللاتينية، وتكونت النخبة السياسية في الأرجنتين والبرازيل والأورغواي والمكسيك في المكتبات والجلسات الثقافية والأدبية، وكانت الجماهير في أمريكا اللاتينية تردد في الساحات العامة أشعار بابلو نيرودا وقصائد بورخيس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في بلد الشهداء!

هل يحق لنا الاحتفال بذكرى الثورة؟