19-ديسمبر-2018

صهيب أيوب (فيسبوك)

يتَّخذ صهيب أيّوب في روايته الأولى "رجل من ساتان" (دار هاشيت أنطوان - نوفل) مدينة طرابلس مساحةً للخوض في غمار الكتابة الروائية للمرّة الأولى. يستعيد محطّات من تاريخ عاصمة شمال لبنان لتوظيفها روائيًا من جهة، والاستناد إليها في تبيين حقيقة واقع المدينة الذي فرضتهُ الحروب، صغيرة: على مستوى العائلات، وكبيرة: على مستوى الطوائف والمناطقية من جهةٍ أُخرى. وعبر طيفٍ عريض من الشخوص، تلك التي تكوّن في تجاربها اليومية وعلاقتها ببعضها البعض، صورة المدينة كما يريد لها أيوّب أن تكون.

تظهرُ شخصيات رواية "رجل من ساتان" بهزائِمها الصغيرة التي تُعيد، بصورةٍ مستمرّة، صياغة علاقتها مع العالم من حولها ومع نفسها

استعادة الروائي لبعض الأحداث التاريخية في العمل، يُمكن حصر أسبابه بالإشارة إلى الأثر النفسيّ الذي تركتهُ على البشر داخل طرابلس، أولئك الذين لا يزالون، رغم مرور السنين، على علاقة وصلةٍ مُباشرة بتلك الأحداث. ومن خلال هذه الاستعادات أيضًا، يحاول صهيب أيوّب الاحتكاك بواقع المدينة بصورة أكبر وأشدّ وضوحًا.

اقرأ/ي أيضًا:تيسير خلف في "عصافير داروين".. رحلة عربية إلى الهزيمة

تظهرُ شخصيات العمل داخلهُ بهزائِمها الصغيرة، تلك التي تُعيد، بصورةٍ مستمرّة، صياغة علاقتها مع العالم من حولها أوّلًا، ومع نفسها أخيرًا. هزائمُ خافتة نُراقب أصحابها وهم يُحاولون بجهدٍ سَترها، وإبقاءها ضمن الحيّز الشخصيّ الضيّق، وعدم تحويلها إلى شأنٍ عام قد يجعلُ منها فضيحةً أكثر مما هي هزيمة. هنا، نتوقّف عند عالم عيّوش، أكثر شخصيات العمل نضجًا وقوّة من جهة، وخوفًا وضعفًا من جهةٍ أخرى، فضلًا عن أنّها الأكثر تأثّرًا بكلّ ما يحدثُ في محيطها، دون أن تُفصح عن الأمر، باعتبارهِ يدلُّ، إن وصل إلى الآخرين، على الضعف والخوف، والخشية من كلّ ما يُمكن أن يحدث.

عيّوش، كما نتعرّف عليها مع سير أحداث العمل، امرأة تَعيشُ وحدة أقلّ ما يُقال عنها أنّها قاتلة، وصمتًا تُحاول، بكلّ الخبرة التي تستمدّها من أزماتِها المستمرّة، أن تَجعلهُ يُشير إلى الوقار لا الضعف. وذلك رغم إحاطة أفراد عائِلتها الصغيرة بها دائمًا. عدا عن نساء الحيّ اللواتي يعتبرنها المرأة الحديدية الوحيدة بينهنّ، هي التي سبق وأن رفعت مسدس "كولت" في وجه ضابط شرطة تُهدِّدهُ حين جاء لاعتقال ابنها الوحيد.

أبعاد شخصية عيّوش نكتشفها على دفعاتٍ مُتتالية تزامنًا مع تقدّم السرد نحو الأمام، بوتيرةٍ مُرتفعة تارةً، وخافتة تارةً أُخرى. نتعرّف إلى التشوّهات التي ألمّت بها أوّلًا، بوصفها مسؤولة، بشكلٍ أو بآخر، عن تكوين شخصيتها عدّة مرّاتٍ ومرّات، وفق ما تراهُ ملائمًا للوقوف بثبات أمام مُحيطها الملوّن بشتّى أطياف العنف، والخوف، والقذارة. وتماشيًا أيضًا مع التحوّلات الكبيرة على صعيد الحياة الشخصية من جهة، والمجتمع والمدينة من جهةٍ أخرى.

إلى جوار تشوّهاتِها، هناك أيضًا جُملة من الانكسارات والخيبات والإخفاقات التي تحدث بشكلٍ مُستمر منذ أن غادرت عائلتها وقريتها الصغيرة مُتَّجهةً للعمل خادمةً عند "آل المقدّم" إحدى أكبر عائلات طرابلس. هناك، سوف تتعرّف إلى علي أكومة الذي كان يعمل هو الآخر عند هذه العائلة، وفيما بعد، ستصيرُ عيّوش زوجتهُ، قبل أن يتحوّل، أي علي، إلى نواةٍ لانكساراتها الجديدة، تلك التي نهضت على قراره بمغادرة المدينة بعد أن ارتكب جريمة قتلٍ كانت جزءًا من الصراع القائم بين عائلة المقدّم وعائلة كبيرة أخرى في المدينة.

زرع هذا الرحيل المفاجئ في داخل عيّوش خوفًا كبيرًا ستورِّثهُ، دون قصد، إلى ابنها الوحيد خالد، والذي سيورِّثهُ بدورهِ إلى ابنه نبيل. ويُمكن القول إنّ هذا الخوف هو ما شكّل حاجزًا ضخمًا بين عيّوش ونسوة الحيّ، فهمهُ الآخرون على أنّه نوعٌ من الوقار والقوّة. وهو ما دفعها إلى محاولة تفادي الشعور به من خلال شرب العرق وتدخين السجائر بشكلٍ مُفرط. عيّوش، بكلّ أبعاد شخصيتها المتوتّرة هذه، كانت داخل العمل انعكاسًا لطبقة من البشر المُهمَّشين الواقعين ضحية مجتمعٍ لا يتوانى عن سحق لا الضعيف وحسب، وإنّما من يظهرُ بنوعٍ من القوّة، القوّة المُفتقدة للمال والسلطة معًا.

صهيب أيّوب سوف يُحاول، من خلال تعدّد الأصوات والشخوص، أن يرسم كلّ الظروف والأحداث التي ستُضاعف من هزيمة عيّوش، وتجرِّدها من القوّة المزعومة، تلك التي تنطوي، كما أشرنا قبلًا، على ضعفٍ دفين لطالما كان المصدر الرئيسيّ الذي يُهدِّد وجودها واعتبارها في الحيّ. مقتل ابنها الوحيد خالد سيكون العامل النهائيّ والمُباشر في انتهاء هذه القوّة، والتفرّغ لشرب العرق والسكر والتدخين. بالإضافة إلى سيطرة مجموعة من المسلّحين على الحيّ، والإمساك بمصائر البشر هناك، وتراجع قوّة عائلة "آل المقدّم" التي شكّلت سندًا لعيّوش وابنها خالد. أمّا السبب غير المُباشر، ذلك الذي ظلّ حتّى نهاية الرواية بمنأى عن حياتها، ولم يتطرّق الراوي إليه أثناء حديثه عن مصائب عيّوش المُتعدِّدة، فهو نبيل، حفيدها المثلي وغير الشرعيّ.

يخوض الروائيّ غمار الكتابة عن تجارب نبيل، الابن المجهول والمنبوذ داخل العائلة، لا سيما عند عيّوش، باعتباره نتيجة علاقة جنسية غير شرعية بين والده خالد، ووالدته اليهودية غلوريا، قبل أن يتّضح أنّ خالد ليس والدهُ، وأن غلوريا لم تتمكّن من إخباره بأن والد نبيل هو أنطوان، مالك البار الذي التقى فيه خالد بغلوريا.

أراد صهيب أيوّب من روايته هذه أن تكون مهووسةً بالتفاصيل، لا سيما تلك اليومية، القاسية، والمريرة

يتحدّث نبيل عن نفسه بنفسه: افتتانه بفساتين الساتان التي كانت عليا، مُرضعتهُ، تُخيِّطها في مشغلها الصغير، حيث كان يعمل برفقتها هناك. وأيضًا، شغفهُ بالرقص الذي كان ينتبه من خلاله إلى وجوده، والذي كان قد تعلّمهُ على يد عليا أيضًا. وأخيرًا، افتتانه بالرجال، والرغبة التي كانت تفيضُ منهُ عند لقائه برجلٍ يشدُّ انتباههُ.

اقرأ/ي أيضًا: في رواية "السقوط من عدن".. هذه هي الحياة باختصار

نبيل، وهو الراوي أيضًا، يعكس الأمزجة القاتمة عند بعض شخصيات العمل، تلك التي تتسمُ بالحدّة، وهو ما يفتقدهُ نبيل، غير أنّهُ كان، مثلها، يتعرّض لتجارب قاسية في سنوات مبكّرة من العمر، دفعتهُ بعد ذلك إلى اتّخاذ زاوية خاصّة للمكوث بها، موزّعة على غرفته الصغيرة، حيث كان يرقص هناك بفساتين الساتان التي يجرّبها على جسده. والمشغل الذي تخلّت عنهُ عليا لهُ، حيث كان يخيّط تلك الفساتين. ومن هذين المكانين، كان يتلصص على العالم من حوله، حيث الصراعات العائلية والطائفية المستمرّة.

أراد صهيب أيوّب من روايته هذه أن تكون مهووسةً بالتفاصيل، لا سيما تلك اليومية، القاسية، والمريرة أيضًا. كما أراد لها أن تكون رواية مجتمعٍ كامل، يجدُ القارئ فيها الحرب والسلم، التديّن والفجور، الخير والشّر، العهر والعفّة، الأخلاق ونقيضها، الموت والحياة، وغيرها من المتناقضات التي تكمّل جميعها صورة طرابلس في العمل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جبور الدويهي.. حميمية السرد

وجدي الأهدل.. في يمن "المؤامرات السعيدة"