11-ديسمبر-2019

"Dark matter" اسم الشركة الإماراتية التي تدير برنامج التجسس الإماراتي (أ.ب - الترا صوت)

الترا صوت – فريق التحرير

في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر، حث ريتشارد كلارك، الملقب بـ"القيصر الأمريكي لمكافحة الإرهاب"، الكونغرس الأمريكي آنذاك، على توسيع سلطات التجسس لمنع وقوع كارثة أخرى.

في 2008 وبمبادرة من ريتشارد كلارك، بدأت قصة مشروع التجسس الإماراتي "DREAD" الذي أداره عملاء أمريكيون معظم الوقت

وبعد خمس سنوات من مغادرته الحكومة الأمريكية، نقل كلارك نفس الفكرة إلى شريك آخر متحمس لمثل هذه الألعاب الجاسوسية، وصفته وكالة رويترز بـ"الملكية العربية ذات الجيوب العميقة"، إنه الإمارات العربية المتحدة.

اقرأ/ي أيضًا: "هآرتس": السعودية تتبع صفقة الإمارات لشراء تقنيات تجسس إسرائيلية

في تحقيق حصري لها بعنوان "صنع في أمريكا"، كشفت رويترز تفاصيل كانت غائبة عن تأسيس وحدة تجسس داخل الإمارات، والأدوار الأمريكية الرئيسية في تأسيس هذا الصرح الجاسوسي.

قيصر مكافحة الإرهاب يستثمر علاقاته مع حكام أبوظبي

كانت بداية القصة قبل 10 أعوام، تحديدًا في عام 2008 عندما ذهب كلارك للعمل مستشارًا في الإمارات، في الوقت الذي بدأ يتشكل فيه طموحها بإنشاء وحدة للتجسس تملك القدرة على مراقبة الإنترنت، بمساعدة مجموعة من عملاء الاستخبارات الأمريكية. ومن هنا، بدأت قصة مشروع التجسس الإماراتي الذي حمل اسم "وحدة تحليل واستثمار بحوث التنمية"، وأطلق عليه اختصارًا "DREAD".

بعد تأسيس المشروع التجسسي، توسعت الإمارات في استخداماته، لتتجاوز تعقب المتطرفين المشتبه بهم، بما يشمل دبلوماسيين في الأمم المتحدة، ونشطاء حقوقيين مثل السعودية لجين الهذلول، وحتى موظفين في الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا).

ريتشارد كلارك
ريتشارد كلارك

وبحلول عام 2012 أصبح البرنامج الذي ساعد ريتشارد كلارك في تأسيسه، معروفًا بين عملائه الأمريكيين باسم "مشروع ريفين".

وأظهر التحقيق الذي كشفت عنه رويترز للمرة الأولى، يوم أمس الثلاثاء، 10 كانون الأول/ديسمبر 2019، أن اثنين من كبار المسؤولين السابقين في البيت الأبيض، الذين كانوا يعملون مع جواسيس سابقين أيضًا في وكالة الأمن القومي (NSA)، لعبا دورًا محوريًا في تأسيس البرنامج الذي أصبحت أعماله قيد التنفيذ والتدقيق من قبل السلطات الفيدرالية الأمريكية. 

واستطاع كلارك الفوز بالعديد من عقود الاستشارات الأمنية في الإمارات، مستفيدًا من علاقته الوثيقة مع حكام البلاد. إحدى هذه العقود تضمنت بناء وحدة تجسس سرية في منشأة غير مستخدمة، بمحاذاة مطار البطين في إمارة أبوظبي.

في أثناء الإعداد للتحقيق، فحصت رويترز أكثر من 10 آلاف وثيقة تخص البرنامج التجسسي، وأجرت مقابلات مع ما يزيد على 10 أشخاص ما بين مقاولين وعملاء استخبارات وموظفين حكوميين سابقين على معرفة مباشرة بالبرنامج.

وتمتد الوثائق التي اطلعت عليها رويترز لعقد كامل من الزمن، إذ تبدأ منذ تأسيس البرنامج في 2008. كما أنها تتضمن مذكرات داخلية، تشرح اللوجستيات والخطط التشغيلية وأهداف المشروع التجسسي.

أوصى كلارك بإنشاء البرنامج التجسسي، الأمر الذي لقى ترحيبًا بين حكام أبوظبي، لتعيّن شركته الخاصة "Good Harbour Consulting" مسؤولة عن مساعدة أبوظبي في تأسيس البرنامج. وقد حصل المشروع على موافقة وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة الأمن القومي كذلك.

وفي حين بدت وكالة الأمن القومي الأمريكية متحمسة للمشروع التجسسي الإماراتي، من باب تعزيز آليات مكافحة تنظيم القاعدة، على خلفية هجمات أيلول/سبتمبر؛ يبدو أن سلطات أبوظبي قد أخذت المشروع لاحقًا في طريق مختلف.

سمعة سيئة في مجال حقوق الإنسان

وبالاعتماد على الخبرة الأمريكية متمثلة في عملاء استخبارات أمريكيين سابقين، بدأ المشروع في العمل، قبل أن تتوسع مهامة، وأيضًا بمساعدة أمريكية، لتشمل آلاف من الأشخاص حول العالم، تعتبرهم الحكومة الإماراتية "أعداء".

على هذه الأعمال، علق المدير السابق لمركز الأمن القومي في البيت الأبيض، بول كورتز، إنه يشعر بـ"الاشمئزاز" من ممارسات هذا البرنامج والدور الأمريكي فيه. وطالب كورتز، الذي كان شريكًا سابقًا لكلارك، بإشراف أمريكي رسمي أكبر على البرنامج.

وخلال فترة عمل كلارك في الإمارات كان لديه ما لا يقل عن خمسة من المحاربين القدامى في البيت الأبيض يعملون في مشاريع مختلفة. وتنازلت فيما بعد شركة كلارك عن المشروع لمقاولين أمريكيين آخرين في عام 2010، بسلاسة تضاهي نجاح المشروع في التجسس على الأهداف.

جدول زمني نشرته رويترز سابقًا لمحاولات تجسس إمارتية من خلال المشروع التجسسي

وكما يتضح، كانت وزارة الخارجية الأمريكية على اطلاع وثيق بالبرنامج وتفاصيله، فباتفاقات سرية مع الوزارة، أدرج كافة الأمريكيين المتعاقدين مع البرنامج التجسسي، على كشوف الرواتب الإماراتية. 

ويكشف تطور البرنامج التجسسي، كيفية استفادة الأمريكيين من الثغرات القانونية، بما يسمح بنقل المهارات التجسسية الاستخباراتية إلى دول أخرى، بما في ذلك الدول المعروفة بسمعتها السيئة في مجال حقوق الإنسان، كما الحال في الإمارات. وهكذا استطاع العملاء الأمريكيين العاملين في البرنامج، من تجاوز أي قيود ممكنة، بما سمح لهم من استهداف أشخاص أمريكيين، بل واستهداف أنظمة حاسب أمريكية.

وفي 2012، استهدف البرنامج التجسسي الإماراتي، حسابات البريد الإلكتروني لكبرى الشركات الأمريكية، مثل: جوجل وهوتميل وياهوو، وصولًا إلى توسيع دائرة الاختراق والتجسس لتشمل مواطنين أمريكيين.

يعلق الرئيس السابق للجنة الاستخبارات في الكونغرس الأمريكي، مايك روجرز، بتشديده على ضرورة منع واشنطن، عملاءها السابقين بالعمل لصالح دول أخرى، مشيرًا إلى أن مهاراتهم وخبراتهم ملك للحكومة الأمريكية التي دربتهم.

من البيت الأبيض إلى الخليج

يوصف كلارك، الذي عمل على تأسيس وحدة التجسس الإماراتية، بأنه "قيصر مكافحة الإرهاب"، خلال فترة ولاية الرئيسيين بيل كلينتون وجورج بوش الابن. 

واشتهر كلارك بتقديمه اعتذار عن عدم تمكن واشنطن من منع وقوع هجمات 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية. ولمنع وقوع هجمات مشابهة، حث كلارك الإدارة الأمريكية على إنشاء وحدة تجسس ذات سلطات واسعة. وبالفعل، ساهمت نصيحته في إنشاء جهاز استخبارات محلي داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) في عام 2005.

لكن قبل الاعتذار وهجمات أيلول/سبتمبر، كان كلارك قد نسج علاقة وثيقة مع عدد من حكام الخليج، خاصة محمد بن زايد، استفادت منها الولايات المتحدة، عندما أرسلت كلارك نفسه لطلب المساعدة من حلفائها في الشرق الأوسط، قبيل الحرب الأمريكية على العراق في 1991.

منذ ذلك الوقت، برز اسم ابن زايد، الذي قدم المساعدة لكلارك للحصول على إذن من الحكومة الإماراتية باستخدام المجال الجوي الإماراتي في قصف العراق، فضلًا عن تحويله أربع مليارات دولار لوزراة الخزانة الأمريكية.

ولم ينسى كلارك مساعدة ابن زايد له، فرد له مساعدته في أمرين، الأول: حصول الإمارات على مروحيات عسكرية بعد رفض واشنطن في بادئ الأمر ذلك، مدعمًا ذلك بقوله: "هل هذه هي الدولة التي يجب أن نتخلى عنها بحرمانها من 20 طائرة هليكوبتر هجومية؟! لا أعتقد ذلك". 

أما الأمر الثاني فكان مساعدتها على بناء نظام أمني لسواحلها. وإلى جانب ذلك اعتقد كلارك أن أبوظبي بحاجة لوكالة تشبه في عملها وكالة الأمن القومي، يكون لديها قدرة للتجسس على "المتطرفين"، وهكذا بدأت فكرة وحدة التجسس الإماراتية.

التسلسل الزمني لتأسيس برنامج التجسس الإماراتي

البدايات الأولى لبرنامج التجسس الإماراتي "DREAD"، كانت في 2008، من داخل مبنى بالقرب من مطار البطين في أبوظبي. وكانت إدارته من قبل خالد ابن محمد بن زايد. 

أنشئ المشروع من الصفر بأيادي المقاولين الأمريكيين، الذي دربوا الموظفين الإماراتيين على تقنيات القرصنة والتجسس، وأنشؤوا شبكات سرية وحسابات مجهولة يمكن أن تستخدمها الإمارات في عمليات المراقبة.

في عام 2009 أنشأ البرنامج أداة للتجسس أطلق عليها اسم "The Thread"، الغرض منها تمكين السلطات الإماراتية من سرقة الملفات من أجهزة الحاسب العاملة بنظام ويندوز.

أسماء عدد من الذين استهدفهم برنامج التجسس الإماراتي

ومع نهاية عام 2009 زادت طلبات القرصنة التي قدمتها أجهزة الأمن الإماراتية إلى البرنامج التجسس، فبدأ العملاء الأمريكيون بجمع أدوات تجسسية تعتمد على اختبار درجة أمان أجهزة الحاسب تم العثور عليها مجانًا على الإنترنت. 

وبالفعل استطاعوا عبر هذه الأدوات، من اخترق جهاز حاسب لأحد المشتبه بهم، الأمر الذي دفع الإماراتيين لتقديم المزيد من الطلبات للعملاء الأمريكيين، وبهذا ترسخ دور الأمريكيين أكثر فأكثر. 

بحلول 2010، تراجع دور شركة كلارك، بعد أن تخلت عن سيطرتها على البرنامج لصالح شركة أمريكية أخرى تسمى "SRA International"، مع ظهور اسم نائب رئيس الشركة السابق كارل جومتو، الذي لم يكن قد مضى وقت طويل على بدئه العمل في شركته الخاصة "Cyber Point".

وخلال عامين من استلامه مهامه في البرنامج التجسسي، زاد جومتو عدد الأمريكيين العاملين فيه، من 10 أفراد إلى 40 فردًا، بميزانية سنوية تصل لما يقارب 34 مليون دولار أمريكي.

وعلى الرغم من شعور بعض الأمريكيين العاملين في البرنامج بالخوف من العمل مع وكالة تجسس تتبع لدولة أجنبية، فإن الفريق الأمريكي سرعان بدأ بشغل المناصب الرئيسية في البرنامج.

ساعد العملاء الأمريكيون، الإماراتيين في كل شيء يتعلق بالتجسس على المستهدفين، واكتشاف نقاط الضعف والثغرات التي يمكن من خلالها اختراق أجهزتهم. لكنهم لم ينفذوا المرحلة الأخيرة من هجمات الاختراق، وذلك ليبقوا ضمن حدود ما يسمح به القانون الأمريكي!

من الذين استهدفهم البرنامج التجسسي؟

كانت 2011 نقطة التحول الرئيسية في البرنامج التجسسي، تحديدًا مع تصاعد الانتفاضات العربية، التي خشي حكام الإمارات من امتداد أثرها إليها.

"أهداف الأمن القومي"، هي الفئة المستحدثة آنذاك في البرنامج التجسسي، بعد أن وسع من نشاطاته لتشمل التجسس على نشطاء وسياسيين. وهكذا بدأت حملة واسعة نفذها البرنامج لمراقبة المعارضين السياسيين.

لم يكتف البرنامج بذلك، فوسع من نشاطه أكثر خلال الفترة ما بين 2012 و2015، ليشمل التجسس على حكومات بأكملها، تعتبرها السلطات الإماراتية معادية لها.

كانت دولة قطر واحدة من بين الأهداف التي بدأ البرنامج بالتجسس عليها، خاصة بعد الاهتمام العالمي الذي اكتسبته في عام 2010 بسبب حصولها على ملف تنظيم كأس العالم 2022

وفي نفس السياق، استهدف البرنامج التجسس مسؤولين في الفيفا، إلى جانب الأسماء المشاركة في تنظيم كأس العالم بالدوحة، وذلك باستخدام برنامج مصمم خصيصًا لسرقة معلومات حول ملف قطر المقدم لاستضافة كأس العالم.

وتمت عملية القرصنة التي استهدفت مسؤولين في الفيفا، والتي سميت بـ"Brutal Challenge"؛ عن طريق إرسال رسائل إلى حسابات المستهدفين بفيسبوك تتضمن روابط لموقع إلكتروني يسمى "Worldcupgirls". وكانت مهمة الرابط إدخال برنامج التجسس إلى جهاز الحاسب الخاص بالشخص المستهدف بمجرد النقر عليه. غير أنه ليس من الواضح إذا كانت المهمة قد نجحت أم فشلت.

من جانبها، وحتى تتمكن شركة "Cyber Point" من القيام بأعمالها التجارية في الإمارات بشكل قانوني، حصلت على ترخيص من وزارة الخارجية الإماراتية ما بين عامي 2010 و2014 لـ"جمع المعلومات من أنظمة الاتصالات داخل وخارج الإمارات". هذا الترخيص أتاح للعملاء الأمريكيين العاملين في البرنامج، استهداف نشطاء حقوق الإنسان والصحفيين وحتى حلفاء واشنطن، دون أي قيود.

ومن بين من استهدفهم البرنامج التجسسي، في عام 2012، كانت مؤسسة كونراد أديناور الألمانية المعنية بالحقوق والحريات وتعزيز الديمقراطية، وذلك بقرصنة الحسابات البريدية لخمسة موظفين في الشركة، في الوقت الذي كانت تضغط فيه المؤسسة الألمانية لتحقيق مزيد من الحريات الصحفية في الإمارات. بعد محاولة الاختراق بفترة، استُدعي السفير الألماني في أبوظبي، ثم طُردت المؤسسة من الأراضي الإماراتية.

كما كان الاقتصادي الإماراتي والعضو في جماعة الإخوان المسلمين، أحمد غيث السويدي، أحد الأسماء التي استهدفها البرنامج في عام 2011. وبعد عام واحد من قرصنة حساباته، أفاد القراصنة بأن السويدي أرسل عبر البريد الإلكتروني وثائق موقعة يوكل فيها مسؤولية أملاكه لزوجته، في حال حدوث أي شيء له. 

وبعد شهرين ألقي القبض على السويدي واحتجز في سجن سريّ، قال إنه تعرض فيه للتعذيب، وأجبر على التوقيع على اعتراف بتهم لم يرتكبها. وفي عام 2013 حاكمت الإمارات 94 ناشطًا بتهمة محاولة الانقلاب، كان من بينهم السويدي الذي حكم عليه بالسجن 10 سنوات.

لجين الهذلول
الناشطة السعودية لجين الهذلول ممن استهدفهم مشروع التجسس الإماراتي

ونتيجة لعمليات القرصنة التي كانت تستهدف أسماءً عديدة بأمر من أجهزة الأمن الإماراتي، نشأ نزاع مع الأمريكيين حول طبيعة الأسماء التي يتم استهدافها، فقد رأى الأمريكييون أن البرنامج تجاوز الحدود في بعض الأحيان، لمرحلة تطلبت اختراق أسماء وكيانات مرتبطة بواشنطن، الأمر الذي دفع بالمسؤولين المحليين إلى أن يقيدوا وصول الأميركيين إلى قواعد بيانات المراقبة، ولاحقًا تطور هذا القرار لإلغاء الإمارات عقد الشركة التي يديرها جومتو في نهاية عام 2015.

وعوضًا عن الشركة الأمريكية، تولت مسؤولية إدارة عمليات القرصنة في البرنامج، شركة إماراتية تسمى "Dark matter". وتحت إشراف هذه الشركة، استهدف البرنامج مكاتب الأمم المتحدة في نيويورك!

توسع نشاط البرنامج التجسسي الإماراتي، ليستهدف حكومات بأكملها ومسؤولين في الفيفا وحتى مكاتب الأمم المتحدة في نيويورك

نفس البرنامج تحت إدارة نفس الشركة، اخترق رسائل البريد الإلكتروني للناشطة السعودية لجين الهذلول، التي أطلق عليها عملاء البرنامج لقب "السيف الأرجواني"، وذلك بعد محاولتها تحدي الحظر المفروض على قيادة النساء السعوديات للسيارات، وقبل أسابيع قليلة من صدور المرسوم الملكي الذي يسمح للنساء السعوديات بقيادة سيارتهنّ في عام 2017. وعلى إثر الاختراق، قام الأمن الإماراتي باعتقال الهذلول، وترحيلها بطائرة خاصة إلى الرياض.

 

أقرأ/ي أيضًا:

علاقة الإمارات بخبراء التجسس الإسرائيليين والأمريكيين.. القصة كاملة

رويترز تحقق في التجسس الإماراتي وتكشف كامل تفاصيل مشروع "الغراب"