27-أبريل-2017

إيمي عبد الباقي/ مصر

سنة أولى

وعدني بالحضور ولم يأت.

تثقل ظهري حقيبة النمور التي كدسوها بكتب لا أعرف محتواها، بينما أقف أمام بوابة المدرسة في انتظاره، صخب الصبية ودقات الجرس المعدني الرتيبة التي تعلن بداية الحصص أو نهايتها، غرباء يدخلون علينا ليكتبوا علي السبورة ويحدثونا عن الأرقام وحروف الهجاء كانت تملأ رأسي.

لماذا لا يأتي الآن فيأخذني إلي حجرتي الصغيرة لألعب بالمكعبات الملونة وأجلس أمام شاشة التلفزيون وأشاهد المطاردات التي لا تنتهي بين القط توم والفأر جيري. كنت قد جلست في بداية الحصص بالتختة الثانية، إلي جواري جلس اثنان لا أعرفهما، أطلق أحدهما الريح وأكل الآخر من سندويتشاتي وشرب من زمزميتي، حين شكوتهم إلا مدرسة القراءة ابتسمت ورفعت رأسها إلي السبورة السوداء في لا مبالاة. 

انتهى زحام الطلبة، لم يعد أمام البوابة سواي حين ظهر في آخر الشارع فقطعته عدوًا، وألقيت نفسي بين ذراعيه وثم ضربت صدره القوي الدافئ بكفي عدة مرات.

 

صفا.. انتباه

- مدرسة صفا.. انتباه

يهتف بنا الأستاذ عاطف عبر ميكروفون المدرسة المتصل إلى مكبر الصوت المخروطي الشكل المثبت أعلى المبنى. يضرب التلاميذ أرض الحوش الجافة، فتتصاعد ذرات الغبار وتتعلق بالهواء الساخن صانعة سحابة تحجب رؤيتي ويضيق لها صدري، بينما تتنافس الصفوف أيها يصعد السحابة لمسافه أعلى. 

أتوقف عن دق الأرض متعجبًا من جدوى ما يفعلون فأشعر بألم حارق مفاجئ أعلى ظهري، تتملكني بعده الحماسة وأضرب الأرض مع الجموع بكل قوتي.

 

خرزانة

أحاول الهرب بعيني من مشهد عينيه الجامدتين، وخرزانته الصفراء الرفيعة التي تصدر صوتًا حادًا وكلما سقطت فوق بدن أحد الطلبة، يحكي زميلي في الصف الخامس أنه يغمسها في الزيت ليلًا لتكون أكثر إيلامًا في الصباح.

كان قد هوى بها ذات مرة على كفي خمس مرات، لأني لم أحفظ جيدًا سورة الفتح فبكيت كثيرًا. وحينها في الفسحة اقتربت مني شريهان بعيونها الزرقاء الطيبة وشعرها المجعد اللامع وجلست بجانبي تواسيني. قلت لها إنني لن أترك حقي، وحين أصبح في مثل طوله سوف آخذ الخرزانة منه وأضربه بها ثم أكسرها عشرين حتة. 

أخبرتني هي عن أبيها الذي يمتلك خرزانة أغلظ يضرب بها والدتها صباح مساء، وأحيانًا يضربها هي أيضًا، ثم رفعت المريلة فرأيت علامات حمراء غليظة أعلى ركبتيها.

- قوم يا خالد.. حفظت سورة الفتح
- لأ يا أستاذ 
- طب افتح إيديك يا بابا

أتلفت حولي باحثًا عن وجه شريهان وعيونها الطيبة بين الوجوه فلا أجده، أثبت عيني على وجهه الغليظ الشارب والحاجبان وأفتح كفي في صمت.

 

بيضاء مشربة بالحمرة

يعم الصمت. تجلس أبله جيهان على الكرسي الخرزان في مقدمة الفصل ببشرتها البيضاء المشربة بالحمرة، وخمارها الطويل الذي يصل إلى خصرها، وبين كفيها ذواتي الأصابع المستدقة كتاب كانت بين اللحظة والأخرى تطالعه وتحكي لنا عن يوسف وكيف تركه إخوته في قاع البئر المظلم، وحين أتت على ذكر امرأة العزيز وهي تراوده عن نفسه أحسست بالحرارة في وجهي وجسدي. ومن ساعتها وأنا أتجنب النظر إلى بشرتها البيضاء المشربة بالحمرة.

 

غرفة الموسيقى

في أول الصف أقف وقد عدلت من ملابسي منتظرًا لحظة خروجها من غرفة الموسيقى، كانت لا تحضر الطابور ولا تخرج سوى عند تحية العلم. كانت مع الفتيات تقضي الكثير من اليوم الدراسي في تعلم العزف بالغرفة، والتي كان دخولها حلم لا يتاح سوى لأبناء الأساتذة، كنا أثناء الفسحة نحاول الاقتراب والتنصت لسماع بعض ما يدور بالغرفة من عزف وغناء.

يحكي لنا عم حمزة فراش المدرسة عن أصوات الآلات الموسيقية كالعود والكولا والدف والأكورديون، وأصوات الفتيات اللواتي يسكن الغرفة ويسمعها ليلًا.

 

مدرسة صفا 

أدق الأرض في حماس وقد أدركت أن لحظة خروجها اقتربت. 

 

انتباه

تخرج من الغرفة بخطى واثقة حاملة الأكورديون المعلق إلى صدرها، ومن خلفها تخرج باقي الفتيات حاملات الطبول والدفوف. يرفع الطلبة وجوههم لتحية العلم الذي يتوسط الفناء، تجلس هي فوق الكرسي الخشبي بينما أحاول تبين ملامحها أكثر وأكثر، تبدأ الفتيات في العزف فيعلو صوتنا بالنشيد الوطني.

 

سلالم باردة

تجلس بجانبي فوق السلالم المتربة المواجهة للفصل تصف لي حجرتها الواسعة وجهاز الكمبيوتر الذي أحضره لها من القاهرة العام الماضي، والذي تستطيع ممارسة الألعاب عليه، بالإضافة لمشاهدة كل حلقات توم وجيري.

أشعر بدفء جسدها وهي تلصقه بجسدي بينما تحكي لي عن وفاته العام الماضي، وكيف أصبح عمها الأستاذ أيمن بتاع الحساب مسؤولًا عنها وعن والدتها، فلم يعد يسمح لها باللعب على الجهاز لفترات طويلة، كما أنه لم يعد يقبلها كما كان يفعل هو. 

- إنتي قاعدة عندك بتعملي إيه؟
- أصلي يا عمو

يحمر وجهه وتنتفش لحيته المعتنى بها جيدًا 

- قلتلك في المدرسة أنا اسمي أستاذ أيمن مش عمو.

يجذبها من ساعدها داخل الفصل بينما نظرته الغاضبة ترمقني للحظات، أراه يصرخ في وجهها بينما جسدها الضئيل ينكمش أكثر وأكثر. في اليوم التالي كانت تقف بعيدًا، وكنت وحيدًا أجلس فوق سلالم المدرسة الباردة.

 

حذاء

- بابا.. الجزمة ضاقت عليا

يجلس متربعا فوق سجادة الصلاة الخضراء المنقوشة برسم الكعبة الباهت، ويرفع وجهه عن المصحف المفتوح أمامه مطالعًا الحذاء الصغير 

- قولي يا خالد.. يا ترى الجزمة اللي ضاقت علي رجلك ولا رجلك اللي كبرت على الجزمة؟

 

كف دافئ

كانت تأخذني دائمًا معها عند ذهابها إلى السوق أو عند صديقاتها، وكنت أغرس كفي داخل كفها وأسير إلى جوارها في سعادة، تتبدد بمجرد رؤيتي شباب الحي من حولنا يرمونها بنظراتهم وتعليقاتهم التي كان يغيظني أكثر سماعي ضحكها منها في نفسها أو مع صديقاتها، كانت سعادتها لكلماتهم تبعث في نفس قلق مستمر ينتهي دائمًا بمجرد غرس أصابعي في كفها. 

بدأت ألحظ تكرارها الحديث مع صديقاتها عن شاب بعينه، يعمل بأحد المحلات التجارية بالحي، كن يتحدثن عنه بينما يخرجن صندوق الماكياج ليزينّ وجوه بعضهن البعض، وأحيانًا كن يمررن فرش المساحيق على وجهي فيحمر في خجل وأدق الأرض بقدمي قائلًا:
- دي حاجات بنات وأنا راجل. 

فيستغرقن في الضحك.

وكان اليوم الذي عبرت فيه معها أمام المتجر فاقترب الشاب منا بقوامه الطويل الذي يقاربها أو يزيد، يمد يده الطويلة الأصابع نحوها ففكت أصابعها المرتعشة عن كفي ووضعتها بين أصابعه.

 

جبنة بالقوطة

في الخمس دقائق بين الحصة الثالثة والرابعة يعطيني سندويتش الجبنة بالقوطة، وفي المقابل أعطيه سندويتش الجبنة الرومي من حقيبتي. نتناوله بسرعة فتمتلأ أفواهنا بقطع الخبز والجبن الذي جف قليلًا، أضحك من خدوده الحمراء الممتلئة بالطعام فيشير إلى خدودي، وتضحك عيناه المستديرتان. يدق جرس الحصة الرابعة، يدخل إلينا الأستاذ نادر مدرس الدين ثم يدخل الأستاذ عبد السيد وينادي اسمه.

- أصله مسيحي
- بيتوضوا باللبن وبياكلوا لحم الخنزير 

ومع نهاية الحصة الرابعة كان كل منا يكتفي بسندويتشاته ولم أعد أحب الجبنة بالقوطة.

 

صور ملونة

دائمًا ما يجلس وحيدًا. فوق السلالم الظليلة أمام المكتبة بجلس متربعًا وفي يده أحد الكتب الملونة، كان أكبر مني سنًا لكنه أكثر نحولًا وكان الصبية يهزؤون به ويسخرون من ملابسه التي رغم نظافتها بها الكثير من الرتق عند الجيب والأكمام، أذكر ذات يوم فكت رتق جيب قميصه وظل الصبية يضحكون منه طوال اليوم.

أتقدم منه هاربًا من صخب التلاميذ العابثة بالحوش الترابي، أحمل في يدي كيس بلاستيك به قطعتان من العسلية، أمد يدي اليه بواحدة فيقبل بعد إلحاح، أجلس بجانبه فيحكي لي مباشرة عن رحلتنا في المدرسة، وأنها تذكره برحلة عقلة الإصبع داخل الجسم البشري، ثم يفتح الكتاب الذي بين يديه فأرى العديد من الصور الملونة داخله. 

- تعال معايا

يجذبني برفق من كفي نحو الممر الذي تقع في آخره مكتبة المدرسة، كانت خالية من الطلبة وصخبهم، تنتظم على جدرانها الرفوف الخشبية المكدسة بالكتب الملونة، وفوق كل رف عنوان في الأدب والعلوم والدين، يأخذني إلى أبله ليلى الجالسة خلف مكتبها الصغير بشعرها المنساب على جانبي وجهها الباسم، تقطع لي قسيمة اشتراك وتعطيني كتابًا مصورًا، في عينيه تبدو بسمة راضية.

 

جنة

أضغط أذني بكفي وأغمض عيني محاولًا تخيل ما بداخل رأسي أو سماعه أو رؤيته فلا أجد إلا الخواء. أخف الضغط عن أذني قليلًا فأسمع صوت رياح وخرير ماء. أجري نحو أمي المتربعة فوق الكنبة في الصالة تشاهد التلفزيون، أسئلها عن ما بداخل رأسي فتتعجب وتمصص شفتيها في حيرة، أحكي لها عن صوت الرياح وخرير الماء الذي سمعته.

- دي أصوات أنهار الجنة يا خالد 
- تبقى اللي جوا راسي هي الجنة.

تبتسم في ضجر وتمد يدها نحو ريموت التلفزيون المستكين إلي جانبها، وتبدأ في تقليب المحطات.

 

صندوق الألعاب

أتسلق جدران صندوق ألعابي وأقف عند حافته، جدرانه الداخلية من المخمل الأحمر، أنزلق عبر أحد الأنفاق المظلمة، إضاءة ساطعه تبدو في آخر النفق، أسقط على أرضية خضراء مصطدمًا بحصاني الخشبي، أزيح عنه فتى الكاوبوي وأستقله فيميل على جانبيه، فأكتشف فقدانه لأحد قوائمه. أسقط عنه لأتدحرج وسط بحيرة من الصلصال الأزرق، فيتوتر سطح البحيرة وينمو جزء منه مكونًا تنينًا أزرق عملاقًا، تتقافز من حولي سلاحف النينجا المطاطية بأسلحتها اللامعه مقاتلة التنين الذي يتحرك في عشوائية، تلتقطني هليكوبتر بلاستيكية وتقذف بين أشجار غابات الديجيتال، أتدحرج فوق سهوله الخضراء الممتدة، شاب هندي فوق فيل ضخم يصوب نحوي قوسه المشدود، أحاول الهرب.

- العشا جاهز

أمسح جبهتي لأزيل بقايا الصلصال، أغلق الصندوق وأذهب لتناول العشاء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لي أحلام مليئة بالموتى

حبيبكِ المجنون