06-أبريل-2019

رئيسة وزراء نيوزلندا في جنازة ضحايا المجزرة (Getty)

يلعب الخطاب دورًا مركزيًّا في صناعة العلاقات العامة وممارساتها. كما يأتي في علم العلاقات العامة ضمن واحدة من خمس منهجيات أساسية لبناء إستراتيجيات العلاقات العامة وهي: "الخطابية، البلاغية، الثقافية، الجندرية، الأخلاقية".

لا يقتصر الخطاب فقط على اللغة، وإنما الطريقة الكلية لاستعراض العالم، والمرتبطة إلى حد كبير بالأيديولوجيات والعقائد الفكرية والقيم

عند الحديث عن أهمية الخطاب، يكون الحديث عن نظام معرفي يحدد ويشكل منظورنا لفهم العالم، من خلال منظومة الحقائق المتشكلة من خلال تضمين الوسائط والأنماط اللغوية والمواقف والأدوار والموضوعات للأفراد والجماعات في الخطاب، التي تشكل من خلال الحوار فهمًا مشتركًا بشأن قضايا محددة بذاتها.

اقرأ/ي أيضًا: جريمة نيوزلندا.. نحو إعادة تعريف الإرهاب عربيًا

كان الفضل للباحثين النيوزيلنديين في العلاقات العامة "جودي موشن" و"شيرلي ليتش"، في جامعة ولونغونغ الأسترالية، للكتابة من المنظور الخطابي لصياغة استراتيجيات العلاقات العامة؛ إذ تعتبران أن الخطاب لا يقتصر فقط على اللغة، وإنما الطريقة الكلية لاستعراض العالم، والمرتبطة إلى حد كبير بالأيديولوجيات والعقائد الفكرية والقيم التي تحدد وتقود المغزى الدلالي للكلمات المستخدمة، وتحدد الدور والموضوع المسيطر في خطاب معين، فعندما نتحدث عن قضايا الهجرة غير النظامية إلى نيوزيلندا، فموقف المهاجرين مهم جدًا، لكن الوضع السائد حينها تمثل بما يأتي من مواقف من قبل المواطنين والحكومة، التي تعتبر مسيطرة في ثنايا ومتن الخطاب السياسي عن اللاجئين من أصول غير إنجليزية.

كما أن السياق الخطابي يتعلق أيضًا باللغة المكتوبة، حيث تشير إلى أهمية الزاوية المراد الانطلاق منها لمخاطبة واستهداف المساهمين أو المشاركين أو المتأثرين بفحوى الخطاب السياسي الموجه لهم. وهذا بالتحديد ما فعلته رئيسة وزراء نيوزيلندا "جاسيندا أرديرن"، التي عمدت بخطابها المتواصل في أكثر من مناسبة بعد الجريمة التي راح ضحيتها 50 مسلمًا في مسجدين، على إتاحة الطريق لفكرة واحدة مسيطرة والمتمثلة برفض الإرهاب وإدانته مهما كانت دوافعه وأصوله، لتؤسس وعيًا معرفيًّا ناشئًا، يتطور ليصبح جزءًا من تفكير جماعي مشترك، آخذين بالاعتبار أنه لا يمكن تخطي السياق المجتمعي وما يحدده من قنوات اتصال وطبيعة المفردات المستخدمة، الذي يكون بالضرورة مختلفًا عما يحدث في مجتمعات أخرى. بالإضافة إلى قولبة رواية المسيطر عليهم في الخطاب السابق "المهاجرين من أصول إسلامية" ليصبحوا المسيطرين في الرواية الإعلامية الرسمية والشعبية لاحقًا.

أدارت أرديرن الأزمة بفاعلية وكفاءة فحولت الخطاب السياسي لصالح المجموعات غير المؤثرة في بنية المجتمع النيوزيلندي ليصبح صوتها مسموعًا، مستندة في ذلك إلى الحق بالمساواة والحقوق والواجبات، مدركة أهمية سد الفراغ الذي قد يحدث في حال لم تسترجع القيم الأساسية التي يدعيها المجتمع النيوزيلندي من مبادئ وقيم غربية، لتسد الفجوة ما بين ما يقال وما يمارس على أرض الواقع فعليًا.

شكلت "الأزمة" حالة مميزة وفريدة من "النجاح" لـ "أرديرن" لأنها تماهت مع مشاعر المجتمع النيوزيلندي الرافض للفكر العنصري المبني على أساس العرق والدين، معيدة الاعتبار إلى القيم الأساسية للمجتمع المنادي بالانفتاح والتعدد الثقافي وقبول الآخر، لإنتاج معرفة جمعية مشتركة تجمع السكان الأصليين "الماورية" بالجنس الأبيض من ذوي الأصول الإنجليزية مع المهاجرين الجدد من خلفيات وعرقيات أخرى كالمسلمين الصينيين والهنود وغيرهم. 

 إذ وظفت الإطار النظري والفكري لكل من "موشن" و"ليتش"، لترتقي بالممارسة المهنية والعملية في إدارة الأزمة بطريقة تنم عن فهم عميق وإدراك واع لما قامت به من ممارسات ناجحة، وبخطوات مستمرة ومتواصلة في حقل العلاقات العامة، لاقت استحسانًا عالميًّا وقبولاً إسلاميًّا، لطالما قل نظيره في التعاطي مع هكذا أزمات في أنحاء مختلفة من العالم، فقد عززت ومتنت العلاقة بين الفكر والممارسة، لأن هذه العلاقة هي الكفيلة بإنتاج المعرفة وترسيخ الحقائق.

ويظهر ذلك جليًا منذ أول تغريدة لها على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" لتؤكد فيها على وحدة المجتمع النيوزيلندي وأنه لا مكان في نيوزيلندا للفوارق المجتمعية، وربطت استهداف الضحايا بـأنه لا يقتصر على النيوزيلنديين من أصول إسلامية وعربية وإنما استهداف للكل النيوزيلندي، لتؤكد حتمية انخراطهم في السياق الاجتماعي الكلي.

مثلما وظفت خطابها كأداة استراتيجية لإعادة صيغة طرق التفكير وآلياته بشأن "الإرهاب"، وبأنه غير مقتصر على جنس بشري دون غيره، لكي يصبح هذا الخطاب مشروعًا ومقبولًا وصحيحًا. وبناء أواصر من التواصل الاستراتيجي لتمتين العلاقة ما بين الخطاب بحد ذاته والجمهور المستهدف، باعتبارهم مساهمين أساسيين في بناء جسور من التكامل والتجانس بين الحكومة وشعبها.

عندما ينظر إلى العالم من منظور الخطاب والسياق يمكن رؤية كيف تعمل العلاقات العامة ولماذا تعمل، وكيف تستخدم العلاقات العامة مفهوم الخطاب بحد ذاته لخلق أنظمة حقيقية، لجعل الأشياء غير المألوفة مألوفة ومقبولة وأن تصبح طبيعية ومنطقية. هذا أن  الإنسان بطبيعته قابل للتغير والتكيف مع الظروف المستجدة، فقد تمكنت رئيسة وزراء نيوزيلندا من تسويق أفكارها وقيمها ومبادئها الإنسانية والسياسية في أوساط المجتمع الإسلامي داخل نيوزيلندا، وفي أنحاء العالم كافة، بسبب قدرتها المذهلة على تبني خطاب وممارسات سياسية كان لها بالغ الأثر في تجذير صورتها بشكل خاص ودولتها بشكل عام في أذهان العالم كله.

كما شكلت أنموذجًا عالميًا يحتذى به، لدرجة أن الأصوات بدأت تتعالى مطالبة بمنحها جائزة نوبل للسلام لهذا العام، لنجاحها في الترويج السياسي لفكرها ومبادئها وقيمها الأصيلة التي لا يبدو إنها تكلفت أو تصنعت في التعبير عنها، فقد أدانت بشكل لا شك فيه العمل الإرهابي، مترجمة أقوالها إلى أفعال حقيقية، أنهت بصورة حتمية أن يكون هناك أي مسافة ما بين أفكارها وممارساتها.

أيضًا، استهلت أريدرين أول جلسة للبرلمان بعد وقوع الحادث. بافتتاح خطابها بـ "السلام عليكم"، متعهدة ألا تذكر اسم مرتكب الجريمة، داعية إلى عدم ذكر اسمه، والتركيز على ذكر أسماء الضحايا، واصفة إياه بالإرهابي. والمجرم، والمتطرف، داعية إلى تكريم الضحايا ورواية قصصهم وفاء لهم.

اقرأ/ي أيضًا: "مانفستو الإرهابيّ".. ماذا كتب سفاح نيوزلندا قبل جريمته؟

 لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عادت ذوي الضحايا وتضامنت معهم، وارتدت لباسًا رمزيًّا محتشمًا يتماشى ويتوافق مع خصوصية الجالية الإسلامية، مقدمة ذاتها على أنها البديل الحقيقي لخطاب الكراهية في أنحاء العالم كله، فتجاهل اسم الإرهابي، والإشارة إليه بصيغة المجهول الغائب، وغيرها من التعبيرات في متن الخطاب تشكل أنموذجًا حيًا لما يعرف بالخطاب البليغ في العلاقات العامة، الذي لم يخلُ من وجود رموز ثقافية ساهمت في تعزيز قبولها من قبل الجالية الإسلامية، لتتماهى معهم شكلاً ومضمونًا وتنخرط في سياقهم ونسقهم الثقافي، من خلال رفع الأذان في الجمعة اللاحقة للجريمة في أنحاء نيوزيلندا والوقوف دقيقة صمت خلال مراسم تشييع جثامين الضحايا، لإعطاء أبهى صورة عن نيوزيلندا في أذهان الشعوب الأخرى.

هذا كله ساهم في ترسيخ صورة نمطية جديدة مخالفة للصور النمطية الأخرى التي كانت شبه سائدة سابقًا، كالتي تحدّث عنها عدد من المفكرين، لا سيما صموئيل هنتغتون الذي يدعي حتمية الصراع الحضاري بين الغرب والإسلام، وللتماهى مع ما طرحه المفكر إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق حول إمكانية وجود روابط مشتركة بين الغرب والشرق تقوم على أساس الحوار الثقافي والفكري واحترام خصوصية الآخر وتجربته، وأنه لا يمكن إسقاط حالة محددة بعينها وتعميمها وإلصاقها بالآخر؛ فالشرق ليس كله واحدا والغرب كذلك.

العناصر المقنعة في الخطاب تتأتى من جزالة ورصانة ما يتضمنه من كلمات وتعبيرات وصور، تساهم في التأثير على طريقة التفكير والآراء والسلوك لاحقًا، مضيفة للمنظور الخطابي استخدامًا لا بأس به للمنظور البلاغي.

عندما ينظر إلى العالم من منظور الخطاب والسياق يمكن رؤية كيف تعمل العلاقات العامة ولماذا تعمل، وكيف تستخدم العلاقات العامة مفهوم الخطاب بحد ذاته لخلق أنظمة حقيقية

وللتمييز بين المنظورين: الخطابي والبلاغي يتطلب اختبار الخطاب في منظوره الجزئي فيما يأتي اختبار المنظور البلاغي من الإطار العام. وهنا لا نتحدث فقط عما هو مكتوب أو ملفوظ أو مرئي في الخطاب، وإنما ما وراء الخطاب أو ما هو تحت السطح إن جاز التعبير. وتجربة رئيسة الوزراء النيوزلندية ستشكل بحد ذاتها تجسيدًا أمينًا لما أسقطه السياق الخطابي نظريًّا من أفكار وممارسات نجحت في إعادة توظيفها بما يتماشى مع ما أملاه الواقع من ممارسات وأزمات حقيقية، وظفتها بطريقة ابتكارية لتخطي ما تعرضت له نيوزيلندا من ورطة حقيقية كادت تضرب سمعتها كمجتمع مدافع عن الحداثة والانفتاح على الآخر.

استخدمت"جاسيندا أرديرن"، الخطاب كأداة استراتيجية للعلاقات العامة حتى تصبح قادرة على الإقناع والتأثير لتغيير الرأي العام وحشده باتجاه توافقي من خلال الاستماع للآراء المتداولة في المجتمع، واستخدامه لتعزيز ترويج الآراء لخلق وعي معرفي للتصدي للآراء المغايرة والمتمثلة بالرأي الداعي لأفضلية العرق الأبيض وللعنصرية والكراهية.

إذا كانت هذه القراءة لإدارة الأزمة النيوزيلندية قد ركزت على المنظور الخطابي، إلا أن ذلك لا يعني إغفال المنطلقات الأخرى لا سيما الثقافية والجندرية فهي في نهاية المطاف أم وزوجة ولم يمنعها ذلك من الوصول إلى مستوى سياسي رفيع أو أن تصطحب رضيعها إلى جلسة الجمعية العامة للامم المتحدة عام 2018.
 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

إعادة الاعتبار للغضب في فهم "الإرهاب"

من يؤيد سفاح نيوزيلندا حقًا؟