11-مايو-2020

منى كاراي/ تونس

يقال: "كما يحتاج الليل إلى نجوم كذلك يحتاج المجتمع إلى شعراء". فعلًا يحتاج المجتمع إلى شعراء، لكن ليس احتياجًا جماليًا إكسيسواريًا، إنما هي حاجة عابر صحراء في الأزمنة القديمة إلى النجوم. فالشعراء هم أصابع الكون التي تشير إلى الجهات والوجهات، وقصيدتهم هي الإصبع التي توضع على الجرح. كما يمكن أن نحرّف هذا التشبيه ليصير: كما يحتاج الليل إلى الظلمة، فالليل لا يكون ليلًا إلا بالظلمة (وهذا بديهي) وكذلك المجتمع لا يكون مجتمعًا إلا بالشعر، لكن هذا التلازم لا يرتقي إلى درجة البداهة بل يعدّ من البلاهة قوله. إذ لا يخفى على أحد أن الشعر يعدّ في أحسن الحالات مجرد ترف نخبوي، فنرى الناس يعودون إلى أي شيء من شأنه أن يفسّر ما يحدث، خاصة زمن الجوائح. لكن من النادر أن يلتفت الجمع إلى الشعر، لا على سبيل اليقين ولا حتى التخمين بأن الشعر قد يكون حاملًا لخفايا غابت عنهم. ربما لأنهم تعوّدوا على اعتبار الشعر خطابًا معقدًا، وهم الباحثون عن التفسيرات ستزيدهم القصائد حيرة. وربما لتسليمهم بأن الشعر خيال محض لا علاقة له بالواقع. مهما كانت الأسباب فهي تجتمع في كونها مجرد أحكام مسبقة، لن أعددها ولن أدحضها، أنا أدعوكم فقط إلى تجريب حُكم مسبق جديد، ولنضف إلى مسلّماتنا السابقة مسلمة أخرى: الشعراء أيضًا يعلمون.

في المقابل، على الشعر أن يكفّ عن التواضع، فالزمن زمنه والمكان مكانه والعالم عوالمه الكثيرة كثرة الأفكار والكلمات والحركات والسكنات، بل إن كل كثرة تقطر منه. ودون أن نخوض في مفهوم الشعر (وليكن مفهومًا فرديًّا) فكّروا معي في ما أسلّم به، ألم تصل الفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة والجيولوجيا والأركيولوجيا وغيرها من العلوم إلى استنتاجات قدّمتها لنا على أنها حقائق، ثم دحضتها وقدمت لنا حقائق أخرى؟ إذًا هي حقائق إلى أن يأتي ما يخالف ذلك. ولأن الشعراء كما يقول رسول حمزتوف "مسؤولون بالطبع عن العالم كله" فإنهم يختبرون هذه الحقائق وغيرها، لذلك هم أيضًا يقدمون لنا حقائق. إنّ بناء حقيقة ما وكذلك هدمها لا يكون إلا عبر المخيلة، والمخيلة لا تعمل خارج اللغة، بل داخل نظامها الاستعاري أساسًا، حيث الشعر. أوليس داخل كل فيزيائي أو رياضي أو كيميائي أو مهندس شاعر؟ ولا أعوّل هنا على إجابة استعارية، فسؤالي يجري على الحقيقة.

أولم تكن هذه الحقائق خيالًا محضًا حتى إن بعض أصحابها لاقى السخرية وآخرون تعرضوا للقتل؟ أوليست هذه الحقائق العلمية سليلة أفكار شعرية في الأصل؟ ثم تُدحض لتعود إلى نبعها الشعري مرة أخرى، حيث يُدخلها التخييل إلى غرفة الإنعاش فلا تخرج منها كما هي أبدًا، إنما تخرج حقائق أخرى. ولنا في هذا أمثلة عديدة لكني لست هنا في غمار الدفاع عن الشعر وإثبات جدارته ومكانته مقارنة بالعلم، وإنما هي دعوة -للمرة الثانية ودائما- للشعر كي يكفّ عن تواضعه سواء أصدّقوه أم أدبروا عنه، وأكتفي بما قالته إحدى الشخصيات في فيلم عن الفضاء حين وصلت إلى المريخ: "كان عليكم أن ترسلوا شاعرًا". كان ذلك جوابها حين سألوها سؤالًا علميًّا : "ما الذي يحدث هناك؟".

ليس ادعاءً أن يقال إن هذه القصيدة أو تلك قد استشرفت ما يحدث الآن. وها نحن نرى الجميع في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي يتحدثون عن علماء اجتماع أشاروا في كتاباتهم إلى ترجيح حدوث مثل هذه الجائحة، وعن خبراء البيئة والطبيعة وتحذيراتهم السابقة للكارثة، وغيرهم من فلاسفة وخبراء ومختصين وباحثين وحتى سياسيين... كما عاد كثيرون إلى أفلام كانوا يعدّونها خيالًا محضًا وصاروا يستشهدون بها ويحاولون من خلالها فهم ما يحدث.

فعلًا، لكلٍّ من هؤلاء قدرة على الاستشراف، وللشعراء القدرة نفسها تقريبًا، أقول تقريبًا لأن هنالك فارقًا ما، وهو أن العلماء يقفون في نقطة ثابتة محاولين إصابة هدف ثابت (وفي أحسن الحالات أحدهما يكون متحرّكًا)، أما الشعراء فهم يمشون على حبل مشدود إلى طرفي الهاوية محاولين إصابة هدف متحرك. علميًّا نسبة نجاح تصويبة العلماء أعلى بكثير من نسبة نجاح الشعراء. لكن ماذا إن لم يكن هنالك، وفق ما يثبته العلم، هدف ثابت أصلًا؟

أكرر مرة أخرى، لسنا في سياق مناكفة، نحن نكاد نجيب على سؤال الفيزيائي ريتشارد فاينمان: "الشعراء يقولون إنّ العلم يأخذ من النجوم جمالها ويجعلها مجرّد كرات كبيرة من ذرّات بعض الغازات... أنا أيضًا أستطيع أن أشاهد النجوم ليلًا في الصحراء وأشعر بها، ولكن هل أنا أرى أكثر أم أقل؟ (وربما يقصد أيضًا، هل أنا أرى أكثر دقة أم أقل).

إن الشاعر ليرى أبعد، الشاعر يوجد أعمق. فهو لا يقف على حافة الهاوية ليقيس عمقها ويختبر صلابة صخورها ويحلّل مياهها، وإنما يرتمي فيها ليصلكُم صوت ارتطامه في شكل كلمات تسمّونها قصائد، ويسمّيها حقائق. فلا تتّبعوا الشعراء إن شئتم أو إن خفتم، لكم ألّا تتبعوهم لأي سبب، ولكن صدّقوهم، صدّقوا الشعراء الذين لا يشعرون بالحرية كلّما تحرّروا، "فوحدهم الشعراء الرديئون يشعرون بالحرية".

بمقياس إميل سيوران اخترنا لكم في هذا الملف عشر رجّات أسوة بما قاله نيتشه على لسان الحكيم في هكذا تكلم زرادشت: "عليك أن تجد عشر حقائق في يومك كي لا تضطرّ إلى السعي وراءها في نومك فتبقى نفسك جائعة".

وليست هذه القصائد على سبيل الحصر، بل إن لكل شاعر في هذا العالم، هنا وهناك، الآن ومن قبلُ، قصيدة يرى فيها (هو أو قارؤه) "حقائق" ممّا نعيشه اليوم، ولكنها كانت سابقة لأوانها، قصائد لم تنتظر حدوث الكارثة لتفتح مجاهرها وإنما تشمّمت رائحتها كما يتشمّم دبّ قطبي على بعد 16 كلم رائحة فقمة مدفونة تحت 3 أقدام من الثلج.

ولا تنسوا أنكم على حقّ: "الشعر ليس واضحًا". لكن، وكما أن البعرة تدلّ على البعير، فإن الغامض يدلّ على الغموض، إنه يحمل رائحته وجيناته. الشعر غامض، ووحده الغامض قادر على حملنا عاليا بيديه أو على أكتافه لنرى... حتى إنه ينزل على أربع لنصعد ظهره ونطلّ على المجهول المحاط بأسوار لا تنتهي، أولها وضوح ما نظن أنه واضح، ومن بينها الأمس والغد والذاكرة والنسيان... وآخر الأسوار أنا، وأنت أيضًا. ثمّة قطع من الزجاج مرشوقة أعلى كلّ سور، منها ما كانت مرايا ومنها ما كانت قوارير: تلك هي الأسئلة بعد أن كانت حقيقة.

قلّة من تجرّؤوا على تسلّق الأسوار، ومن بينهم الشعراء، غير مبالين بالزجاج يقطّع أكفّهم ويمخر أقدامهم. وهذا بعض من دمهم.

فلا تكترث أيها الشاعر إن بقيت قصائدك مهملة مثل جرائد قديمة. يومًا ما سيحتاج إليها أحدهم ليمسح بلّورًا متّسخًا ويرى العالم بوضوح.


يوشك أن يحدث

  • أحمد الملاّ (13 آذار/مارس 2017)

 

أمرٌ ما

يوشكُ أن يحدث؛

البحرُ صافن

وعلى غير عادتها

النوارسُ هائجة

الأشجار ترقُبُ السماء على جانبي الطريق

الكلاب تنبحُ أعمدة الإنارة

نجمٌ يهوي

نعيبُ غربانٍ لا تُرى

بكاءُ طفلٍ وحيدٍ في شرفة

صفّارةُ إسعافٍ

برقٌ يشقُّ الصحراء نصفين

صوتُ كوابح سيارةٍ مسرعة

هجرةُ أسراب طيور

أزهارٌ تجفّ

أوراقُ شجرٍ تسقطُ بطيئة

أبوابٌ ونوافذُ تُغلق بعجلة

أنوارٌ تُطفأ

صمتٌ واقف على رجلٍ واحدة

ريحٌ تصفر

حذرٌ فالتٌ في الشارع

صيحاتُ أمّهات

ظلام.

 

عينُك ترفّ

فراشةٌ حطّت على كتفك

نعالُك مقلوبة.

تتلفّت

كأنما يناديك أحد.

 

أمرٌ ما

يوشك

أن يحدث.

 

شرور عادية

  • أسامة الحدّاد (1995)

 

أكثر ممّا أريد من شر

وما أتوقع من كوارث

يقع بالفعل

وجثتي لم تتفتت

والرصيف يقابل الوجوه المتشابهة

بأنياب أقل حدة من مرآة

ولست أملك غير شروري وجثتي

حين أجلس بانتظار كارثة

تقع على رأسي

وتسيل في الشُّعب الهوائية لأصدقائي.

إن كل شيء يتشابه

السباب المطر الموتى،

هل عليّ أن أقتحم مومسًا أخرى

لأحسّ بجسدي

أم أحطّم رأس أول طفل يقابلني؟

 

الأشجار المصطفة على الجانبين

ليست خفرًا ولا أعمدة إنارة

وشواهد القبور خوازيق

تحدّث القادمين

هنا يرقد غبي أعطى العالم ثقة لا مبرر لها

 

 وحدي على الطاولة

السجائر لا تنطفئ

وزجاجة الجعة تحتسي دمي

بينما تطلق سيارة الإسعاف نشيدها

عن موت قادم أفرحني.

 

 حدث بالأمس

أن جالست بعض الموتى

وداعبت نهدي فتاة البار

كان عليّ أن أكون سافلًا وبذيئًا

تمنيت ذلك طويلًا

ولم أصل إليه.

وأمر عاديّ جدًّا

أن يترك ولد بريء مقعده في الحانة

ليتسلق مواسير المنازل

بحثًا عن فتاة لا يعرفها

فقط لمحها مرة واحدة

وهي تقفز في سيارة المدرسة.

لا تنزعجوا من تطفلاتى المريبة

ولا ظلالي الشائكة

اسمحوا لي أن أعبّئ دمي في أكياس

وأُودع عظامي في خزانة الملابس.

أعطوني فرصة أخيرة

لقتلكم.

 

حيوان عموديّ

  • أشرف القرقني (كانون الثاني/يناير 2018)

 

من جلده يخرجُ. ثمّ يدخل في جحره،

الذّئبُ:

أنيابهُ من جرحٍ طريّ.

لكنّها...

قلبهُ في فريسته. والفريسةُ هو،

حالما بما ليس يقترحهُ العالمُ: مخالبهُ الحبُّ،

ضعيفا ومنهكا، الحبُّ،

وحيدًا ويتيمًا،

قويًّا وهائجًا،

الحبُّ

ولا شيء يتبعه غير نفسه الوحيدة...

 

 ماذا يفعل في النّهار في غابة الإسفلت، حيث الوحلُ بضاعة العموديّ، يلهثُ دون خطوةٍ. لكنّه يمشي. ولا يصل إلى نفسه مطلقا... السّماء رخامٌ أملسُ باردٌ. ولا خيط في الأفق يسحبه إلى مجهوله بينهم؟

 

البيت حجرٌ ولا صخرة.

الغرفةُ ضوء ولا نور. الكلماتُ

تغنّي في الحائط.

فأين إيقاعها؟

 

ميّتٌ هوائي بين شعابكم. ومريضة كلماتي في مصحّتكم الكبيرة البيضاء. أجرح صوتي فتسيل الغابةُ. أعضّ مخيّلتي، فتقفز قبيلتي ويصير العواء جبلًا.

آخر ذئب في العالم. وكلّ من يمشي حوله مسيحٌ يكفر بالقيامة. أوّل ذئب في العالم ومن قلبه تخرج النّهايات الحزينة، لتنام على الطّريق.

 

للبرد أسماؤه الأخرى. ومن بينها البشرُ الكثير... من بينها البشر القليل، الباردُ.

لو أنّ لي أن أسمع نباحًا واحدًا في هذه المفازات، لأشعلتُ نارًا. ورأيتُ في صورتها حقيقتي... لكنتُ ترابها وهواءها والمحترقين في تنفّسها الثّقيل.

 

ولأكون واحدًا منهم، جرّبتُ الوقوف على قدمين. رأيتُ سماء وبحثت فيها عن صورتي، بينما الأرضُ لحمي والدّم المسكوب في الكؤوس...

أشربُ.

وأغادر غابة الإسفلت.

 

في بيتي ظلامٌ يضيءُ.

وكلماتٌ تبعتني إلى حجرتي.

لكنّني لا أسمع شجن المخالب في الغناء.

 

يوميات مضادة

  • خالد بن صالح (2016)

يسألني صلاح: ماذا تكتب؟ وصوتُه يختلط عندي بهدير السيارات التي تتماوج كمياه مستنقعٍ راكدة، سقط فيها وحشُ الذاكرة الضخم. الطريقُ مزدحمٌ والأفكارُ تتجمّعُ في مكان ما، كحبّات عرقٍ ثقيلة. مهرجانٌ من اللّعنات. أجسادٌ خفيفةٌ تطيرُ في الهواء، قادمة من التّسعينيات. أكتبُ شيئًا عن عقارب السّاعة المتوقفة. عن الدّم الذي يسيل من أمكنةٍ خفيّة. وإذا سألني أحدُهم: ما الأمر؟ أجيبُه بأنّني أتبعُ خيط ضوءٍ ضئيل. ثورة قليلة الأصدقاء، بينما نشهدُ، على قلّتنا، ترهُّل مؤخراتهم الملتصقة بالكراسي، ومللًا غير مرئيٍّ يتحرّكُ تحت أقدامهم.

أترك صديقي عالقًا في زحمة السّير، منشغلًا بكتابة قصائد عن يومياته داخل سيارة. فكرةٌ تستوقفني كلّما رأيتُ جثّة تُحلّقُ بين نشرات الأخبار. ألا يمكنُ إبطاءُ الأمر قليلًا، واللُّجوء إلى سيارةٍ تعاني من آلام المفاصل لنقل الجثث بين المحطات التليفزيونية. حتّى أنا، لستُ سوى جثّة متعفّنة داخل شاحنة، أقفز من الشاشة لأشطب ما اشتريته من مستلزمات البيت، كي لا تتحوّل الكلماتُ المرتّبة بعناية امرأةٍ تحترمُ مطبخها، إلى قصيدة نثرٍ تعمُّها الفوضى.

 

اذهب وقل وداعًا

  • زاهر الغافري (1996 - 1997)

 

تلك البلدةُ، النائمةُ في أحضان الجبال

تلك البلدةُ، ذلك الوهمُ الأسيرُ في يد القدر

الحقائقُ التي كانت ريحًا من الرمل

الحجارةُ التي هي أيقونةٌ من الإشارات

تلك الإغفاءةُ الباردة فوق سرير المجهول

ذلك المصير الذي تلاشى خلف ضباب العالم

إذهب وقل وداعًا لتلك البلدة الصغيرة.

 

Karin Boye

سأخاطبك أنت هذه الليلة.

أخاطب فيك الملاك النائم جوار المقبرة.

سأخاطبك يا كارين بوي

وأنت تنظرين بعينين من جمرٍ

عاصفةً من كريستال

ودخان الذخيرة يغطي ليل المدن.

الأنوثةُ زهرةٌ على سرير الانتحار

ترفعُ نداء الأيدي إلى

الأعالي.

صوتك ذاك

رنّتهُ الشبيهةُ بقفزة وعلٍ مطارد

صوتك القادم من ضفاف الحرية

يحفر قبرًا

فوق أعالي التلال.

اتركي الرّب نائمًا على الغصن                                  وخذي كأسًا من حجر الينبوع للألفية الثالثة.

 

المعجزاتُ قليلة هذه الأيام

لكن الألم غالبًا ما يحدث على مرأى الجميع

هنا أو هناك.

كانت حياتك غيمةً في الأربعين

ملأى بالفراشات

لكن تذكّري

في الغابة أو على حافة النهر

يسهرُ الفتيانُ على ضوء أناملك

الصغيرة كالبراعم

وهي تتفتح في الهواء.

 

لن

 

لن تذهب إلى أبعد من هذا ولن ترى

لن ترى إلى أبعد من النافذة حتى ذلك النبع

لن ترى ذلك النبع الذي يسعى المرءُ لأن يغرق فيه كي يولد ثانيةً

تريدُ أن تمتحن المصير على الحافة؟

لكنك على الأرجح رجلٌ ميتٌ يمشي في الظلام

يُردّدُ أغنيّةً عن منفاه الطويل

لن تذهب ولن ترى ولن يظهر لك الملاكُ

في القلعة.

إلى هنا انتهت المغامرةُ إلى الأبد

وانكشف عُريُ الزمان.

 

أسئلة

  • صبري الرحموني (2018)

 

إسأل الصياد

وهو يعود إلى بيته بالأيّل والأرانب

والطير،

إن كان يستطيع العودة بالغابة؟

 

إسأل مايك تايزن

الذي هشم وجوه الرجال

بضربة قوتها 250 كلغ،

إن كان يستطيع ضرب الشيخوخة؟

إسأل صاحب الثروة

وهو أمام الجمبري والكونياك

وحوله ستّون خادمة،

إن كان يستطيع إنزال واحدة فقط

معه إلى القبر؟

 

إسأل الرئيس

الذي ضرب أفواه الجائعين في الشارع بالعصا

إسألهُ سؤال "غوسدورف"؛

هل يُمكنُ أن نفوز بقلب امرأة

بعد اغتصابه‍ا؟

 

إسأل الجميع

ثم أغلق الباب واجلس على طرف السرير

واسأل نفسك الحالمة بموقعٍ بين النجوم،

إسألها سؤال الفيزياء الأول:

هل يمكن أن نقفز دون الارتكاز على القاع

والعودة إليه؟!

 

كأننا نخوض معركة دون أن نبرح السرير

  • عبد الرحيم الخصار (2008)

 

كل شيء من حولنا صار يشبه غابة تحترق

والأفكار التي آمنّا بها

صارت ماء قديمًا في إناء

خبريني إذًا لماذا تفحّمت أحلامنا؟

لماذا صارت الابتسامة على شفاهنا ثقيلة وغير مستساغة؟

كأن عاصفة مرّت من هذا المكان

كأن أحدًا ما نصب الفخاخ لأقدامنا الرطبة

(...)

كأننا نخوض معركة

دون أن نبرح السرير

كأننا نقاتل ضد الأغراب

مع أن أطيافنا قد شلّها الخدر

لماذا نحسّ بشيء لا رغبة لنا فيه؟

لماذا نجد أنفسنا في ساحة لم نسر إليها يومًا ما؟

لماذا ننام في غرفتنا ونستيقظ في غرف أخرى؟

نرتدي معاطف الوبر في عز الصيف

ونسير في طرقات نجهلها

وإذ نسير نتعثر بأفكارنا

ينبت العشب فوق عيوننا

وشيئًا فشيئًا تتحول أقدامنا إلى أخشاب

 

كنت أركض في الأجمات

مثل نمر يتعقب طريدة

وها أنا اليوم أرشو الأشجار كي تخفيني

لست خائفًا مما مضى

لكنني خائف مما سيأتي

أخاف أن أضع يدي في جيبي فتلسعني العقارب

أخاف أن أخطو باتجاه البهو فيصعقني الكهرباء

أخاف أن أفتح لك الباب فتداهمني دبابة

غصن شجرة السنديان يتخذ شكل البندقية

والعصافير التي تطير فوقنا

تشبه القنابل التي تسقط من السماء

لذلك فشعوري اليوم

هو شعور رجل يستسلم قبل المعركة

ربما لا ترين الأغلال في قدمي

لكن شفتيّ تتمتمان بلعنة لا نهاية لها

تعالي معي إذًا لنجوس التلّ

ونلعن كل الذين أوقعونا في هذا الشراك.

 

كان أولى لنا أن نتشبّه قليلا بالملائكة

ألا ترين أن هؤلاء البشر لم يعودوا بشرا كما كانوا

صاروا مستنقعات كبيرة من الدماء

وأنت تعرفين أني أكره الدماء

لذلك فثيراني تشيخ في حظيرتها

لنجرّب ازدراد الأعشاب ربما تصيبنا الرحمة

الحيوانات أليفة كما يبدو

والإنسان هو الضاري

ويومًا ما ستطول أنيابه

وستنبت في يده المخالب الجارحة.

 

إنني أنام على سرير في غرفة عالية

ومع ذلك أحدس أن طوابير من الأفاعي

ستصعد الأدراج وتلدغ كتبي

كم سيكون مؤلمًا لهؤلاء الشعراء المنتحرين

أن يموتوا أيضًا بلدغة أفعى

وأؤلئك الذين علّقت صورهم على مداخل الغرف

سينظرون إليّ بعتاب

لأني تركت عصرهم وعشت في عصر بلا مذاق

لقد أطلنا التحديق في بعضنا حتى أصبنا بعمى الألوان

ألا يجدر بنا أن ننفض المكر والأحقاد عن ثيابنا

ونكنس الغبار الذي تكدّس في الحجرات؟

 

(...)

 

هل قُدّر لهذا العالم

أن يكون على هذه الشاكلة؟

بعد عصور من الحجر والنحاس

بعد الروم والمايا

وأحفاد أمازيغ وآشور وجنكيز خان

بعد بابل والفراعنة

بعد تاريخ مديد من الحروب والأنبياء

بعد كل هذه الثورات والأنوار

ننتهي هكذا هجينين وحيارى

بأيد مرفوعة دائما إلى الهواء

وألسنة ثقيلة عطّلها الخدر؟

 

سكّان بيتي

  • محمد الناصر المولهي (أيلول/سبتمبر 2019)

 

كما كل يوم

أعود إلى منزلي.

كل شيء على حاله مثلما كان بالأمس أو قبل عام؛

نوافذ مغلقة

مطبخ بمواعين مقلوبة

زوج أحذية نائم في التجاعيد

حشد جوارب طافية وملابس فوق السرير

وتحت السرير الشعوب التي استنجدت بي (بقايا خيال وماض)

غبار على كتبي فوق طاولتي حيث منفضة للسجائر مدفونة بالوريقات

والكلمات تكدّس أغلبها ثم ذاب.

كل شيء هنا تاه

حتى المفاتيح والباب واسمي

حتى اللواتي تخيلتهن.

سكان بيتي يخافون من كل امرأة قد تجيء ومن مالك البيت في كل شهر. يخافون أُطرد من عملي

أو أغيب على حافة البحر

حيث بلادي كانت تعيد النوارس

قبل مجيء الظلام.

 

على الجبال

  • وديع سعادة (1985)

 

على الجبال التي

لا يضحّي الثلجُ بنعله الجديد لهبوطها

يسلّم بريدُ الحماقات اليوميّة، قسرًا،

لقلوب مفتوحة كقعر سفينة

(جان جيونو يتذكّر أكثر المساعي مهانةً

وتلقيح الناس ضد السموم بتسميمهم قليلًا كلّ يوم،

إدوارد توماس يتفحّص الجبهة تحت مطر بارد وناعم

حائرًا هل يبقى قرب النافذة

أم على السلّم حيث يأتي تحطُّمه في الطبقة السفلى

بشكل أفضل،

وجوه روبرت موزيل تجمع بين رافائيل وأنثى الخنزير

وهو متأكد أنّ المرء يمشي

بعد سلاسل الحرّاس

كأيّ سائح)

 

على الجبال إذًا

حيث تُسلّم جميع الرسائل لغير أصحابها،

مع خصياتٍ صغيرة جائزة ترضية،

يلاحظ أنّ الغوغاء تجمّعت

بفعل اللواط

وأنّ تشريح الحنان البشريّ والسلام المحشّش باستمرار

يتمُّ بلا دم.

 

 

الشوارع تنام هكذا:

ثلاثة مليارات نعل في خبطة واحدة

تحّركها جماجمُ للاستعمال الخارجيّ،

مراكزُ عبادة بُنيت مناصفة

بين عرق الرجال والمومسات،

فلوريساناتٌ أوتوماتيكية من أقدام العبيد

فوق مكاتب الرؤساء،

سماواتٌ بأعضاء تناسليّة

وآلهة

تنتف شعرها بسكّر رخيص.

على الجبال؟

أيّ جبال؟

 

 

لا شيء لديّ لأخسرهُ

  • وليد أحمد الفرشيشي (2015)

 

لا شيء لديّ لأخسرهُ،

سأكُونُ دقيقًا أكثر،

لا شيء لديّ لأخسرهُ حقًّا،

العالمُ، عندي، مجمُوعةُ أعطابٍ تكبُرُ داخل رأسي،

تكبُرُ... تكبُرُ... تكبُرُ...

حتّي تُصبح ذاكرتي ملساء كراحة طفلٍ..

تكبُرُ...

والعالمُ من حولي يصغُرُ... يصغُرُ...مثل نوايا الزُّهّاد،

أنا النّازلُ من رحمٍ بيضاء كقطعة مسكٍ لا أملكُ إلاّ أن أكبُر فيها

لا أملكُ إلاّ أن أمتصّ منابتها حتّى آخر عرقٍ...

حتّى آخر قنّينة خمرٍ أشربُها في حالة كُرهٍ باذخةٍ

الكُرهُ، على وجه الدقّة، يُبقيني حيًّا،

الكُرهُ يُشكّلُ خامة هذا الورم السّارح في أحشائي

لكنّي لا أحزنُ،

لا وقت لديّ لهذا التّرف الفكريّ،

ولا قلب يُزيحُ غشاوة هذي الدُّنيا عن عيني رجُلٍ

جوهرُهُ محنتُهُ

إنّي أعرفُ، مُذ كُنتُ نبيًّا في بطن الحُوت،

نهاية هذا العبث المجنون برأسي،

أعرفُ أنّ الحُمّى تاكُلُ أحشاء العالم،

أعرفُ أنّ الحُمّى تلدُ الأعطاب كما تلدُ الحربُ مناسكها

في تحويل الأطفال إلى أرصدةٍ

في بُورصات الموت المُنتج للفانتازيا

أعرفُ أنّ قصائدنا تستلقي تحت سماء القتل كأصدافٍ فارغةٍ

أعرفُ أنّ الجُوع يُرابطُ، كالحرب تمامًا،

في الماضي، والحاضر، والمُستقبل،

أعرفُ أنّ الموتى صاروا للأحياء نقاط عُبورٍ نحو الكُوليرا

أعرفُ أنّ اللّه يُحبُّ،

وشمسُ وديعتهُ ترحلُ في جوف الليل حثيثًا،

أن يكتًب سيرتهُ الشّخصيّة حتّى لا يُنسى

والعالمُ يأخُذُ شكل اللاّشيء كما البدء تمامُا

أعرفُ أنّ الحُبّ غدا أضيق من فتحة عذراء،

بلا معنى صار الحبُّ...

بلا حبٍّ صار المعنى

أعرفُ هذا،

لكنّي لا أحزنُ

لا وقت لديّ لكي أحزن

لا قلب لديّ لكي أحزن

لا شيء لديّ لأخسرهُ

فالعالمُ، هذا العالم، مجمُوعةُ أعطابٍ،

تكبُرُ في رأسي...

تكبُرُ...

تكبُرُ!

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثلاث شاعرات من الأردن: جريمة الشعر