في مشهد يكاد يكون غير مسبوق في التاريخ، تُرتكب جريمة إبادة جماعية في غزة على مرأى ومسمع العالم، دون أن يتحرك الضمير الإنساني لإيقافها. فمع استئناف إسرائيل غاراتها العنيفة على القطاع، ارتقى أكثر من 400 شهيد في غضون ساعات، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، في مجازر جديدة تُضاف إلى سجل الجرائم المتكررة التي ترتكبها إسرائيل بحق سكان القطاع.
المفارقة المرعبة تكمن في أن هذا العدوان الجديد حصل على ضوء أخضر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بينما استُخدمت الهدنة كغطاء لإعادة تزويد جيش الاحتلال بالذخائر والمعدات العسكرية، تمهيدًا لاستئناف القتل الجماعي.
إسرائيل لم تكتفِ بقتل الفلسطينيين، بل سعت إلى تدمير كل مقومات الحياة في غزة
ذريعة استئناف القصف: كذبة إسرائيلية مكررة
حكومة الاحتلال برّرت استئناف القصف بادعاء أن حماس لم تلتزم ببنود وقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه في كانون الثاني/يناير الماضي، لكن الحقائق على الأرض تثبت عكس ذلك. طوال الأشهر الماضية، لم يقتل أي إسرائيلي في غزة بسبب هجمات المقاومة، باستثناء حادث وقع عندما أطلق جيش الاحتلال النار بالخطأ على مقاول إسرائيلي، ظنًّا منه أنه فلسطيني.
في المقابل، ومنذ بدء الهدنة، استشهد 150 فلسطينيًا في غزة وحدها، فضلًا عن عشرات الشهداء في الضفة الغربية. هذه الأرقام تثبت أن وقف إطلاق النار لم يكن أكثر من غطاء زائف لمواصلة الاحتلال عدوانه بأساليب أخرى، في وقت كانت إسرائيل تستعد لشن هجوم جديد أكثر دموية.
فيديو | غارات الليلة.. استشهاد طفل وامرأة حامل من عائلة الحميدي وإصابة عدد آخر جراء قصف إسرائيلي استهدف خيمة تؤوي نازحين غربي مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة. pic.twitter.com/b8nfUX8lMW
— Ultra Palestine - الترا فلسطين (@palestineultra) March 19, 2025
إبادة جماعية موثقة بالصوت والصورة
في مقال رأي بصحيفة "الغارديان"، يشير الصحفي أوين جونز إلى أن الإبادة الجماعية في غزة تعدّ أكثر الجرائم الموثقة في التاريخ، حيث يواصل الناجون من الحرب نشر أدلة يومية على المجازر التي يتعرضون لها، مستخدمين وسائل التواصل الاجتماعي لنقل صورة حية للكارثة.
منذ أكثر 529 يومًا، كان الناجون يوثّقون لحظة بلحظة عمليات الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل، مستخدمين وسائل التواصل الاجتماعي كآخر متنفس لإيصال صوتهم. الصور التي انتشرت عبر الإنترنت لا تحتاج إلى تأويل؛ أطفال ملطخون بالدماء يُسحبون من تحت الأنقاض، آباء يقلبون خصلات شعر بناتهم للمرة الأخيرة قبل الوداع الأبدي، وعائلات بأكملها مُحيت من السجلات المدنية بعد أن قُضي عليها في قصف وحشي.
ورغم هذا التوثيق غير المسبوق، لم يتحرك العالم لوضع حدّ لهذه المجازر، بل على العكس، واصلت الحكومات الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، تقديم الدعم العسكري والدبلوماسي لإسرائيل، مما كرس منظومة الإفلات من العقاب ومهّد لمزيد من الفظائع.
التدمير الممنهج لغزة
إسرائيل لم تكتفِ بقتل الفلسطينيين، بل سعت إلى تدمير كل مقومات الحياة في غزة، حيث كشفت التقارير الأممية عن دمار هائل طال البنية التحتية 83 % من الغطاء النباتي دُمّر بالكامل، 80 % من الأراضي الزراعية أزيلت بفعل القصف، 95 % من الثروة الحيوانية قضت عليها إسرائيل، وأكثر من 80 % من البنية التحتية للمياه والصرف الصحي خرجت عن الخدمة. هذه ليست مجرد عمليات عسكرية، بل حملة ممنهجة لجعل غزة غير قابلة للحياة، مما يفسر الدعوات المتكررة من المسؤولين الإسرائيليين إلى إفراغ القطاع من سكانه عبر التهجير القسري.
اعترافات القتلة
الأمر الأكثر إثارة للصدمة هو أن هذه الجرائم لم توثق فقط من قبل الضحايا، بل اعترف بها مرتكبوها أنفسهم. فقبل 17 يومًا، فرضت إسرائيل حصارًا شاملاً على دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي، فيما أعلن وزير البيئة الإسرائيلي صراحةً أن الحل الوحيد لغزة هو "إخلاؤها من سكانها"، وهو تصريح لا يمكن تفسيره إلا كدعوة للتهجير القسري.
جثامين عائلة كاملة استشهدت في الغارات الإسرائيلية اليوم، حيث أكد الدفاع المدني في غزة أن عدة عائلات مسحت بالكامل من السجل المدني إثر هذه الغارات pic.twitter.com/QcQ7lkqkYD
— Ultra Palestine - الترا فلسطين (@palestineultra) March 18, 2025
أما قادة الجيش الإسرائيلي، فقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث اعتبروا المدنيين الفلسطينيين مسؤولين عمّا يحدث لهم لأنهم "وحوش بشرية"، في خطاب عنصري صريح. هذه التصريحات تعكس ذهنية الإبادة الجماعية التي تحكم السياسة الإسرائيلية، وتجعل من غزة ساحة مفتوحة للقتل والتدمير الممنهج.
حين يصبح الصمت جريمة
يتساءل جونز في مقاله، كيف يمكن أن تستمر جريمة بهذا الوضوح، وهذا التوثيق، وبهذا الكم من الأدلة دون أن يتحرك العالم؟
يعتبر الصحفي البريطاني أن الجريمة ليست فقط في العدوان الإسرائيلي، بل أيضًا في التواطؤ الغربي والصمت الإعلامي والسياسي المخزي. بينما يواصل الاحتلال ارتكاب جرائمه، نجد أن من يجرؤ على فضح هذه الجرائم يتعرض للملاحقة والقمع، سواء كان صحفيًا أو سياسيًا أو حتى شخصية مشهورة.
في الماضي، كان المتورطون في دعم الجرائم ضد الإنسانية يُحاكمون، أما اليوم، فإن من يعارض الإبادة في غزة هو من يُعاقب ويتم إقصاؤه من الفضاء العام.
ولو تحركت الحكومات، لاستقال وزراء، ولو تحدثت الصحافة بحرية، لتصدرت المجازر عناوين الأخبار، ولأصبح فرض حظر الأسلحة والعقوبات على إسرائيل أمرًا حتميًا لا يمكن تجاهله. لكن بدلاً من ذلك، نجد أن من يعارض الإبادة هو من يتعرض للهجوم والتكميم، فيما يواصل العالم صمته القاتل.
وهذا ما جرى مع موقف وزير خارجيته ديفيد لامي، الذي اتهم إسرائيل بخرق القانون الدولي بسبب منع وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. فقد صرّح المتحدث باسم الحكومة بأن ما وصفه لامي بأنه "خرق للقانون الدولي" هو مجرد "خطر محتمل" وليس أمرًا مؤكدًا. وعند سؤاله عما إذا كان ديفيد لامي يجب أن يقدّم اعتذارًا، قال المتحدث باسم الحكومة: "سأترك ذلك لوزارة الخارجية".
وكان لامي قد أدلى بهذه التصريحات خلال استجوابه في مجلس العموم البريطاني، حيث وصف الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة بأنه "مروع وغير مقبول"، معتبرًا أن إسرائيل تنتهك القانون الدولي.
أثارت تصريحات لامي جدلًا داخل حزب العمال، إذ بدت متناقضة مع الموقف الرسمي للحزب، الذي يتبنى دعمًا واضحًا للاحتلال الإسرائيلي، ويبرر العدوان على غزة تحت ذريعة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
🎥 سيدة غزية في وداع عائلتها التي استـ ـشـ ـهدت نتيجة القصف الإسرائيلي على قطاع #غزة pic.twitter.com/HubzNOpnxI
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) March 18, 2025
أما الموقف الأكثر وضوحًا في التواطؤ مع الإبادة هو موقف الإدارة الأميركية، حيث أكد البيت الأبيض أن إسرائيل تشاورت مع الولايات المتحدة قبل استئناف حرب الإبادة على قطاع غزة فجر الثلاثاء.
وفي تصريحات لقناة "فوكس نيوز" الأميركية، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، إن واشنطن كانت على علم مسبق بهذه الهجمات، مشيرةً إلى أن إسرائيل أجرت مشاورات مع البيت الأبيض وإدارة الرئيس دونالد ترامب بشأنها. وأضافت ليفيت أن ترامب لا يتردد في دعم إسرائيل ولا يخشى ذلك، مردفةً: "ستنقلب الدنيا رأسًا على عقب".
ضمائر على المحك
يختم جونز مقاله، بالقول كل دقيقة تمر، يسقط مزيد من الأبرياء في غزة، وكل لحظة صمت من العالم تمنح إسرائيل مزيدًا من الوقت لمواصلة الإبادة الجماعية.
الوقت لا ينفد فقط للضحايا في غزة، بل أيضًا لمن يريد إنقاذ ضميره من العار. إذا استمر هذا الصمت، فإن التاريخ لن يرحم كل من التزم به، تمامًا كما لم يرحم من صمتوا على الفظائع السابقة.