04-سبتمبر-2020

أول معرض ليوم الدستور الأمريكي عام 1970

يتجاوز الدين حدود الميتافيزيقي المقدس في وجدان الأمريكيين ليظهر بشكل أوضح في نسيجهم التاريخي والاجتماعي. فبين انقسام الأمريكيين حول من يملك الأحقية بأجهزة التنفس الاصطناعي في علاج كوفيد-19 واستثناء دور العبادة من إجراءات التباعد الاجتماعي، وبين الجدل الدائر والمستمر حول حق المرأة بالإجهاض، يلعب الدين دورًا بارزًا في تشكيل الرأي العام الأمريكي وتحديد نوعية الخيارات الفردية والجمعية المتعلقة بأسس مجتمعهم. وقد شهد الأثر العقائدي تزايدًا مطردًا في الساحة السياسية الأمريكية منذ تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة وما يدعيه من دور ديني وما يراه فيه الإنجيليون البروتستانت من دور المخلّص.

يتجاوز الدين حدود الميتافيزيقي المقدس في وجدان الأمريكيين ليظهر بشكل أوضح في نسيجهم التاريخي والاجتماعي

لا يملك هذا التوجه العقائدي أسسًا علمية ومنطقية راسخة، ولا حتى في حدودها الدنيا، بل يبدو أقرب إلى الاتباع المتوارث حتى بين الفئات الشابة أو ذات التعليم المتوسط. في دراسة أجراها مركز بيو لدراسات الدين والحياة العامة عام 2019 على 11,000 أمريكي بالغ، أظهرت الدراسة جهلًا نسبيًا في أساسيات الأديان بين المشتركين في الدراسة، إلا أن جهلًا أكبر ساد بينهم فيما يتعلق برأي الدستور الأمريكي بعلاقة الدين بالحكومة، حيث استطاع 27% فقط معرفة أن الدستور لا يتطلب القسم على كتاب مقدس أو روح مقدسة لشغل المناصب العامة.

اقرأ/ي أيضًا: في الذكرى المائة للتعديل التاسع عشر على الدستور الأمريكي: تقييم أمريكي مسلم

وبالرغم من هذا التباعد الجلي بين ما يعرفه الأمريكيون وما يسير حياتهم ويؤثر في تشكيل حاضرهم ومستقبلهم، إلا أن المعتقد الديني يمتد في أثره إلى مكونات الحكومة الأمريكية لا فيما يُعرَف بمبدأ التحقق والتوازن "Checks and Balances" وحسب، ولكن أيضًا في طبيعة القرارات المتخذة من الشقين التشريعي والقضائي ناهيك عن التنفيذي بالطبع. يبدو أوضح مثال في هذه الحالة، ما تبنته محكمة النقض الأمريكية العليا في تفسير النص الدستوري الأمريكي فيما يتعلق بحق المرأة بالإجهاض؛ حيث تنقسم ماهية وحدود الحماية الدستورية لهذا الحق دونًا عن بقية الحقوق والحريات الفردية المشمولة ضمن الإجراءات القانونية الواجبة لحماية تلك الحقوق والحريات المعرفة بـ"Due Process" إلى حماية ما قبل قابلية الجنين للحياة وما بعدها؛ بحيث يسمح للحكومة بتنظيم الإجهاض ما قبل القابلية للحياة بينما يسمح لها بمنع الإجهاض بتاتًا ما بعد هذه القابلية باستثناء الحالات التي تهدد سلامة الأم.

يقف الدستور الأمريكي في تعديله الأول حائلًا دون التدخل الحكومي مع الدين أو ضده. تحمل هذه الجملة القصيرة جدلًا واسعًا تطرقت له مؤلفات مطولة وآراء وتفسيرات ممتدة، حيث لا تحمي الولايات المتحدة الفرد في ممارسته الدينية من أي اضطهاد حكومي وحسب، ولكنها تحول دون تدين الحكومة وانخراطها في نشاطات تبشيرية أو تحريضية أو تسهيلية لدين على حساب آخر أيًا كان الدين أو المعتقد. تستقر هذه القاعدة في شقين متقابلين هما حرية الممارسة الدينة "Free Exercise Clause" ومنع التأسيس الحكومي الديني "Establishment Clause".

تتطرّق القضايا المتعلقة بهذه القاعدة إلى مكون وجداني أساسي مما يزيد من صعوبة إثابتها أو تأطيرها. فلدى نظر المحكمة لقضية متضمنة لمتعقد الفرد الديني لا تُعنى بمدى موافقة هذا المعتقد للحقيقة أو المنطق، بقدر ما تُعنى بإخلاص الفرد لهذا المعتقد وإن كان متعلقًا بعبادة البيوت أو الطبول، وهي بالمناسبة أديان فعلية في الولايات المتحدة، وإن كان دينًا مبتدعًا كليًا ولا يتبعه سوى الفرد الماثل أمام المحكمة. إلا أن ما يصعب من إثبات هذه القضايا حقيقةً هو توجه المحكمة إلى عدم ربط الإخلاص بالتردد على دور العبادة أو اتباع تعاليم ظاهرة. 

ورغم الحماية التي تبدو مطلقة لتوجه الأفراد العقائدي، إلا أن الإجراءات والقوانين الحكومية التي تحد أو تمنع بعض الممارسات الدينية لا تُعد باطلة بالمطلق. يتطلب إبطال هذه الإجراءات وإثبات عدم دستوريتها إثبات تحيزها واستهدافها لهذه الممارسة الدينية بشكل أساسي مما يعني استثناء القوانين التي يثبت حيادها الظاهري وعمومية تطبيقها، حتى لو تعارضت مع ممارسات دينية معينة. فمثلًا القانون الذي يقضي بمنع تغطية الرأس لدى أخذ صورة رخصة القيادة صحيح وموافق للدستور، وإن تدخل في حجاب المسلمات أو كيباه اليهود. في المقابل فإن قانونًا يمنع التضحية بالحيوانات بينما لا يمنع صيدها يعد قانونًا لا دستوريًا وينبغي إبطاله وهو ما وقع فعلًا في قضية لوكومي الشهيرة. ففي عام 1993 نظرت محكمة النقض العليا في مدى دستورية قانون أصدرته مدينة هواليه في ولاية فلوريدا تمنع فيه قتل الحيوانات في طقوس دينية لأسباب لا تتعلق بأكلها. قامت كنيسة لوكومي المنتمية لديانة السانتيريا، وهي ديانة أفروكوبية مهجنة من ديانات أخرى وتقوم على التطهر بسفك دم الحيوان، خاصة الدجاج، برفع دعوى لإبطال هذا القانون. وهو ما أمرت به المحكمة؛ حيث علق القاضي أنتوني كينيدي يومها قائلًا: "لا تحتاج المعتقدات الدينية لأن تكون مقبولة أو منطقية أو متوافقة أو حتى مفهومة لتقع تحت حماية التعديل الدستوري الأول".

يقف الدستور الأمريكي في تعديله الأول حائلًا دون التدخل الحكومي مع الدين أو ضده

الملفت هنا أنه بإمكان الحكومة استثناء فئات دينية قد تتأثر من تطبيق قانون ما في نص القانون ذاته. لا يعد هذا الاستثناء واجبًا تحت حرية الممارسة، كما لا يعد ممنوعًا تحت مبدأ عدم التأسيس. ومن أمثلة هذه الاستثناءات قانون ريشة النسر الأصلع؛ وهو قانون ينص على استثناء قبيلة هندية أمريكية معترف بها فيدراليًا من منع الاحتفاظ بريشة النسر الأصلع لدورها التعبدي في معتقدات القبيلة، بينما يُغرّم غيرها من غير المرخصين بالاحتفاظ بالريش غرامة قد تصل إلى مئة ألف دولار أمريكي، أو الحبس لمدة عام أو كليهما.

اقرأ/ي أيضًا: أين اختفت حركات مناهضة الحرب في الولايات المتحدة؟

في المقابل، لم تستقر المحكمة العليا الأمريكية على اختبار واحد لمدى تدخل الحكومة في التأسيس لدين ما. فقد قامت المحكمة بتطوير عدد من الاختبارات على امتداد تاريخها، وما زالت تضيف لبعضها بينما تعدل وتقلم البعض الآخر، وفقًا لتفاصيل القضية المنظورة. يلاحظ المتأمل في هذه الاختبارات مدى رُفع الحبل الذي ينبغي على الحكومة السير عليه في هذه القضايا. فبينما يتوجب على الحكومة عدم التحيز للدين على حساب المجتمع المدني، ينبغي عليها أيضًا أن لا تتحيز للمجتمع المدني على حساب الجماعات المتدينة. هذا الاختبار يعرف باختبار الحياد، وقد تم صياغته بشكل فعلي أثناء نظر قضية قام برفعها طلبة متدينون ينتمون لناد إنجيلي ضد مدرسة ميلفورد الإعدادية الحكومية عام 2001، على خلفية رفض المدرسة إقراض صفوفها لهذه المجموعة بعد الدوام الرسمي في الوقت الذي سمحت فيه للطلبة من غير المتدينين ممارسة هواياتهم واجتماعاتهم المختلفة في هذه الصفوف، وقد أقرت المحكمة عدم دستورية قرار المدرسة باستثناء المتدينين من شغل مرافقها دون غيرهم.

لكن ماذا عن الأثر النفسي الذي تتركه بعض الإجراءات الحكومية المؤثرة سلبًا أو إيجابًا على الممارسات الدينية سواء على المتدينين أو الذين يرفضون الانتماء الرسمي والعلني لدين ما؟ تعود الحكومة هنا لتسير على حبل رفيع تحت اختبار الإكراه سواء باتجاه تبني الدين وممارسته أو باتجاه النأي عنه وهجر تعاليمه. وقد أقرت المحكمة عددًا من القضايا الملفتة تحت هذا الاختبار فما اعتربته في بعض الحالات إكراهًا لم تعتبره كذلك في غيرها. فمثلًا اعتبرت المحكمة الحكومة متورطة في التأسيس للدين حين سمحت بإقامة الصلوات الصباحية في المدراس الحكومية، بينما لم تعتبرها كذلك في الصلوات الافتتاحية في الاجتماعات الحكومية طالما أنها مفتوحة لأي دين، ولم تحدد الحكومة موضوعها مسبقًا. وهو ما أقرته المحكمة في قضيتي لي ضد وايزمان 1992 وبلدية جريس ضد جالوي 2014. فبينما رأت المحكمة في إلزام التلاميذ بتلاوة الصلوات صباحًا إكراهًا نفسيًا لممارسة الدين، رأت في تلك الصلوات في افتتاح الجلسات التشريعية والحكومية تقليدًا تاريخيًا راسخًا في المجتمع الأمريكي ومكونًا أسياسيًا لوجدانها تحت اختبار مستقل هو اختبار التاريخ والتقليد القاضي بعدم إمكانية فصل الدين عن تاريخ المجتمع وتكوينه وتقاليده الراسخة، وقد اعترض بعض قضاة المحكمة على هذا التفريق ومن بينهم القاضي سكاليا مدعين أن الصلوات لا يجب أن تمنع بأي حال من الأحوال لتحولها لتقليد تاريخي أكثر منه تقليد ديني.

لا يُنكَر أثر الدين في صيرورة التاريخ الأمريكي ووجدان الأفراد الذي يمثلون المؤسسات الأمريكية الرسمية، حتى أن كثيرًا من الممارسات الحكومية قد لا تلفت الانتباه لفرط تكرارها وتماشيها مع البيئة الرسمية العامة، وينبغي لإثارة ضجة حول المسألة أن يمتلك أحدهم نظرًا ثاقبًا وتفكيرًا مغايرًا لما وراء الظاهر، وفي بعض الأحيان معرفة متخصصة بالقانون. وهكذا، لم تسلم نوايا الحكومة المبطنة وتأثير إجراءاتها وثقل هذه الإجراءات من فحص الدستورية في المحكمة؛ ففي اختبار "ليمون" وهو اختبار استقت المحكمة اسمه من قضية ليمون ضد كرتزمان الشهيرة عام 1971، رأت المحكمة أن وضع مجسم للوصايا العشر في صفوف المدارس يحمل بعدًا دينيًا ويجانب الدستور، ولو تم تشريعه في قوانين محلية كما حصل في قضية ستون ضد جراهام 1980 فقط لتقر لاحقًا عام 2005 في قضية فان اوردن بمشروعية عرض الوصايا العشر في أراضي تكساس الحكومية وسط مجموعة من التماثيل التاريخية والاجتماعية لرسوخ هذه الوصايا في تاريخ الأمم المتحدة وتقاليدها. ولكن إلى أي مدى يمكن إقرار تدخل الحكومة في الاتجاه المعاكس لضمان عدم تورطها بالدين؟ لا يُعرف الحد تمامًا فالمحكمة لم تقر إجراءًا حكوميًا انطوى على تسجيل مصور يومي للمعلمين الحكوميين الذين يتم إرسالهم للمدراس التبشيرية بغرض تدريس الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة لضمان عدم تطرقهم للدين، ورأت في ذلك مبالغة في الإجراءات الحكومية ضمن علاقتها بالدين، مما يعيد للأذهان مرة أخرى مدى صعوبة وتداخل حيثيات القضايا المتعلقة بعلاقة الحكومة بالدين، ومتى يكون الحد مسموحًا ومتى يتم تجاوزه.

لا يُنكَر أثر الدين في صيرورة التاريخ الأمريكي ووجدان الأفراد الذي يمثلون المؤسسات الأمريكية الرسمية

مع تحول كثير من الممارسات الدينية في الولايات المتحدة إلى تقليد اجتماعي لا يعرف كثير من ممارسيه أصوله ورمزيته كعيد جميع القديسين مثلًا وبعض تجليات أعياد الميلاد والقيامة، بتت المحكمة في مدى مشروعية أي إجراء حكومي من شأنه إظهار الانتماء الديني بصورة ذات شأن واعتبار في الموقع السياسي للأفراد كعرض مشهد الميلاد مثلًا على مدخل مجمع المحاكم في مواسم الأعياد، ورأت المحكمة في تصرف أليغيني كاونتي المماثل عام 1989 إجراء لا دستوريًا. والحق أن المحكمة قامت بالتفريق بين ما يحمل بعدًا دينيًا وبين ما ينتمي للأساطير وإن تم تأويله للدين فيما بعد؛ فعرض مجسم لسانتا كلوز وغزلانه الطائرة في مواسم الميلاد لا يحمل وفقًا للمحكمة بعدًا دينيًا وقد تم إقرار مشروعيته في قضية لينش عام 1984.

اقرأ/ي أيضًا: الولايات الإسلاموفوبيا المتحدة

قال جون آدمز، أحد الآباء المؤسسين واضعي الدستور الأمريكي وثاني رئيس للولايات المتحدة، يومًا "تم وضع دستورنا للمتدينين والأخلاقين، وهو ليس مناسبًا بتاتًا لحكومة تحكم غير هؤلاء". ورغم أن ما عناه آدمز حينها ربط القانون الإجرائي بأخلاقيات ومبادئ المواطنين وقيمهم العليا المستمدة بحسب منطقه من الدين، إلا أن جملته هذه ما تزال تثير جدلًا حول مدى تدين الدستور الأمريكي والحدود التي قد يصلها في تبنيه أو نأيه عن الدين المنظم، ومدى ما يمكن اعتباره دينًا خالصًا وما يختلط في المقابل اختلاطًا عضويًا في نسيج المجتمع وتاريخه ووجدانه دون أن يخضع الميزان للتحيز والحيرة فيما يعد قمحًا وما يعد شعيرًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"أمريكا والإبادات الجنسية".. حفريات الهولوكوست الأمريكي

ريبيكا لي.. الطالبة التي غيرت وجه الطب في أمريكا