21-مايو-2016

صلاح عبد السلام حين غزا وجهه شوارع أوروبا مطلوبًا أولًا (أ.ف.ب)

شكل صمت المتهم الرئيسي في تنفيذ هجمات باريس صلاح عبد السلام، والمرتبط اسمه بعدة خلايا يتعلق عملها بهحمات بروكسل وغيرها، في أولى جلسات محاكمته أمام القضاء الفرنسي، صدمًة لدى الرأي العام الفرنسي والعالمي، علاوًة عما ظهر من اضطراب في تصريحات النيابة العامة الباريسية، التي عبرت عن سير جلسة المحاكمة بقولها إنه "مارس حقه بالتزام الصمت".

اقرأ/ي أيضًا: انتقام بروكسل.. القهر والقهر المضاد

وتأخذ محاكمة عبد السلام، وما أظهره من مفاهيم فلسفية حديثة في التعامل مع أحفاد أباطرة السوربون، أو لنكن أكثر قربًا من التوصيف، الرجل تعامل معهم من منطق وجودية جان بول سارتر، رغم أنه لم يقرأ كتاباته أبدًا، حتى أنه اطلع على القليل من تفاسير القرآن عبر الفضاء الإلكتروني. هكذا قدم نفسه بتعالي فلسفي أكثر قربًا من وجودية وعدمية صراعات المقاهي الباريسية في منتصف القرن العشرين. ولهذا فقط نجد أن محاكمته تأخذ أبعادًا تحليلية كثيرة يمكن الحديث عنها وفق نقاطٍ متسلسلة.

 يعيش صلاح عبدالسلام حالة نفسية سيئة نتيجة خضوعه لمراقبة الكاميرات في محبسه على مدى 24 ساعة

القصة تبدأ من لحظة نقل محطات الإعلام لعملية إلقاء القبض على عبد السلام، في هذا الوقت الذي ظنت أوروبا أنها لا تزال تمسك بخيوط أمنها وأمانها، جاءت تفجيرات بروكسل لتؤكد أن دول أوروبا الغربية تحديدًا، ما زالت هدفًا مباشرًا لتنظيم "الدولة الإسلامية"، علينا أخذ التسلسل الزمني للأحداث بين لحظة الاعتقال والأربعة أيام التي سبقت تنفيذ الهجمات.

وزارة الدفاع التونسية أعلنت عن اشتباكات بين الجيش التونسي ومجموعة من تنظيم الدولة في محافظة القصرين، وحصل تفجير عبوة ناسفة في شارع الاستقلال، أحد أهم شوارع مدينة إسطنبول السياحية، صلة الوصل بين الشرق والغرب، تبناه التنظيم لاحقًا. وزيادًة على ذلك كان عناصر التنظيم يخوضون معارك عنيفة، ضمن منطق مثلث التطرف الأوروبي، سوريا والعراق وليبيا، ما يعني أنه لم يظهر عليهم التأثر بما حصل.

كذلك ألحق التنظيم التفجيرات بإصدارين مرئيين تبنى فيهما العمليات، وإصدار منفرد هدد فيه مطار كولونيا-بون في ألمانيا "ما فعله إخواننا في بلجيكا نستطيع فعله هنا"، أوقفت القارة الأوروبية غربها قبل شرقها لأيام طويلة على قدم واحدة.

اقرأ/ي أيضًا: التنظيمات المتشددة.. قراءة أخرى

في هذا الوقت بدأ محامي الدفاع البلجيكي سفين ماري عن عبد السلام، يدخل في معارك مع القضاء الفرنسي، واصفًا إياه، أي موكله، بأن "وزنه يساوي ذهبًا"، لكنه سرعان ما تراجع عن هذا الوصف "مستوى ذكاء موكلي لا يتجاوز مستوى طفاية سجائر فارغة".

أما بالنسبة لمحامي الدفاع الفرنسي ونقيب محامي مدينة ليل فرانك بروتون، فهو يتعامل بمهنية رفيعة المستوى مع القضية، بعد تصريحه الأخير بأن عبد السلام يعيش حالة نفسية سيئة نتيجة خضوعه لمراقبة الكاميرات على مدى 24 ساعة، صحيح أنه بدا إيجابيًا في حديثه مع الصحافة بعد انتهاء أولى الجلسات، لكنه أظهر جانبًا هجوميًا ضد وزارة العدل الفرنسية وطريقة معاملة موكله.

حتى أن عبد السلام كان شخصًا كتومًا أمام كل من القضائين البلجيكي والفرنسي، محامو الدفاع هم من ينقلون حديثه، الحديث الوحيد المنقول عن لسانه، سربه المدعي العام الباريسي، وما تبقى كان مجرد رسائل مرسلة عبر شقيقه أو محامي الدفاع، يطلق من خلالهما تصريحاته المثيرة للقلق.

ليس صلاح عبد السلام إلا واحدًا من أبناء التهميش الأوروبي، وليس مسار تبينه للإرهاب السلفي إلا أحد المسارات القليلة المتوافرة في معادلة الثأر الاجتماعي لأمثاله

الرأي العام الأوروبي هو الوحيد الأكثر شغفًا لمعرفة الأسباب التي منعت عبد السلام من تفجير نفسه في ملعب في باريس، إضافة إلى أنه كان يخطط لتنفيذ هجمات ثانية في ذات المدينة خلال بطولة كأس الأمم الأوروبية، أي أن لهذا العدمي الناجي من الموت، ثأر شخصي مع مدينة الأنوار، وجد في التطرف الصيغة المثلى لأخذه.

ولعل فكرة الثأر هذه، هي شعار الجماعات الجهادية في القرن الحادي والعشرين، لأن دول أوروبا الشرقية غالبًا لا تعني لهم شيئًا. في النهاية هي مجرد دول صغيرة مفككة تحاول الحفاظ على نفسها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. صحيح أنها الخاصرة الاقتصادية المنهارة لدول أوروبا الغربية، هذه الأخيرة تشعر بذلك تمامًا، لكن لا يمكنها فعل شيء حيال الأمر، خوفًا من اختلال توازن رأس المال العالمي، ونفحات الاستشراق التضامنية. وربما لذلك تبقى أعمال بيلا تار عن الريف المجري، من أنقى الصور التي تتحدث عن أرياف أوروبا الشرقية قبل مدنها.

اقرأ/ي أيضًا: زهران علوش.. مآلات سورية

إذن، يمكن القول إنه من بوابة هذا الثأر، حيث كان يقيم أغلب منفذي التفجيرات في أوروبا، أي المناطق العشوائية منها، هناك ترعرع جيل كامل من القهر، على تضاريس ومتاهات الفشل الأوروبي، على بوابة الفقر الحالم بالحياة الأوروبية، التي تضخها وسائل الإعلام بشكل متسارع، غير معترفة بخسارتها في تحقيق الاندماج وجلب اليد العاملة، لكنها تعترف بأن الشرق الأوسط بوابة السماء التي يتساقط منها الإرهابيون.

تنظيم الدولة الإسلامية من جهته، استبق محاكمة أحد أهم عناصره بإصدار مرئي "على خطى والدي"، طفلان فرنسيان يهددان الدولة الفرنسية، الطفلان جعلا من صورة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، هدفًا للتدريب على التصويب بالسلاح. غالبًا أن القدر كتب على الدول الغربية أن تقف على قدم واحدة، مرًة ثانية، تأهبًا من أي فعل عدائي، وكأنهم يقولون همسًا في آذان معظمهم: يا لثارات صلاح عبد السلام.

ترعرع جيل كامل من القهر، على تضاريس ومتاهات الفشل الأوروبي، على بوابة الفقر الحالم بالحياة الأوروبية

قد يُظَن فيما ذكر لاحقًا، أنه خروج عن قضية عبد السلام، الذي من المرجح أن يتحول إلى أيقونة للجهاديين الباحثين عن الثأر من أحفاد قياصرة أوروبا السياسيين. هنا يمكن الجزم باختصار: لا. لأن عبد السلام نفسه، تحمل ويلات الصحافة العالمية بالاشتراك مع انتصار السوشيال ميديا على الصحافة التقليدية، وهنا ضاعت ألف حكاية وحكاية بين دهاليز الصمت.

ومن بين تلك الحكايا، ترتسم ملامح السيرة الذاتية لصلاح عبد السلام، محمولًا بتهم سابقة تتعلق بالاتجار وتعاطي المخدرات، دون أن تفضي لتصريحات عن خلايا جديدة لتنظيم كان قادته إلى وقت سابق أفرادًا في الجيش العراقي، الذي شنق قائده في على بوابة صباحات عيد الأضحى.

وما زال الرجل المجهول الهوية في تنظيم "الدولة الإسلامية"، يتلاعب بمصير الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأوروبية، أي الأحزاب السياسية، اشتراكية الهوى رأسمالية الميول، خوفًا من تصاعد سطوة اليمين العالمي، وعودة رايات الحروب الصليبية في نشأتها الأولى، وصورها الحديثة في الميول العالمي من خرائط الشرق الأوسط، بعيدًا عن أمستردام، طالما أن أبناء هذا الشرق لا يستطيعون الوصول إليها إلا بحرًا.

اقرأ/ي أيضًا: 

أبو علي خبية.. سيرة ناقصة

"شارلي إيبدو".. الاستعراض العنصري

سلافوي جيجك.. الاستشفاء بجرعة لينينية