29-يناير-2020

لا يمكن فصل صفقة القرن عمّا طبخ في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة (Veterans Today)

إنهم يراهنون على إيهامك بأنهم يمتلكون الغد وأنهم كرماء جدًا إذ يقدمونه لك هكذا ببساطة ودون عناء مد اليد إليه، لأنهم الأدرى بوضعك وحالتك. هم في ذلك لا يقيسون إلا مدى نجاعة مخططاتهم في كسر شوكتك. يقيسون ضجرك من الأوضاع المعيشية، من إحباط البطالة الممنهج، وشح الماء وشيوع الغلاء. 

كل العوامل تشير إلى تحيّن توقيت إعلان صفقة القرن بما يخدم لا مصلحة الصهاينة فحسب، بل مصلحة كل رجعيات الشرق الأوسط

لعل هذا أول انطباع ينتاب المشاهد لدونالد ترامب، وهو يتلو بتقعيرة شفتيه على طريقة الـ"Duck face"، بنود خطته للسلام المزعوم، أو ما تعرف بـ"صفقة القرن".

اقرأ/ي أيضًا: عن صفقة القرن والقاهرة الغارقة في الصمت

توقيت صفقة القرن

"الصفقة" مصطلح يحيل، للوهلة الأولى، إلى معاملة تجارية، عملية بيع وشراء. لكن من باع ماذا ومن اشترى من؟ فلا البائع يملك ولا المشتري. فكيف إذًا لهذه الجسارة أن تأتي من فراغ؟

صفقة القرن
كل العوامل تشير إلى تحين توقيت إعلان صفقة القرن بما يخدم الصهاينة ورجعيات الشرق الأوسط

لنقف للحظة ونتأمل توقيت الإعلان عن صفقة القرن: قبيل إعلان بنود الخطة مباشرةً، أُعلن رسميًا بدء متابعة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بتهم فساد، وقبل أسابيع من ذلك بدأ التحقيق لعزل ترامب، والحزب الديمقراطي يشحذ أنيابه لمنع ولاية ثانية.

وقبل ذلك بأشهر اندلعت انتفاضات شعبية في كل من لبنان والعراق، وفي إيران. كل هذه عوامل تشير إلى تحيّن صارم للتوقيت، بما يخدم لا مصلحة الصهاينة فحسب، بل مصلحة كلّ رجعيات الشرق الأوسط متحدة، حتى أكثرها ممانعة. 

القضية الفلسطينية بين فيلق القدس وأمراء النفط

عملت الصهيونية بشكل ممنهج على طرح القضية الفلسطينية في بوتقة الصراع السعودي الإيراني. إيران التي طموحها الإمبريالي أغلى من القدس، والدليل على ذلك، الحقيقة/المزحة القائلة بأن "فيلق القدس قاتل في كل بقاع الشرق الأوسط إلا القدس".

وفي المقابل، أمراء النفط الخائفين دائمًا، واقعون في شباك الاحتماء بترامب، الذي هو بدوره غير قادر على حماية كرسيه، دون الرهان على تقوية تمركزه بالصهيونية. وخلف كل هذا المشهد تسري أنابيب النفط وأرصدة البنوك وصفقات السلاح، بينما شعوب الشرق الأوسط تموت جوعًا. هي نفسها الشعوب التي كتبتها سابقًا في ربيع 2011، على جدران ميدان التحرير بالقاهرة: "لن تتحرر القدس حتى تتحرر القاهرة"، وجددتها شعوب لبنان والعراق في انتفاضاتهم الأخيرة.

رهانات النيوليبرالية

لا يمكن فصل ما استجد من الصفقة عمّا طبخ في الشرق الأوسط طوال الـ10 سنين الأخيرة، من الرهان على الأصولية الإسلامية (سنية أو شيعية)، إلى الاستقواء بالقوى الاستعمارية، بما في ذلك استقواء السلطة الفلسطينية وحماس على شعبهما بالاحتلال.

أما التسجيل الصوتي الأخير، لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهو ينعت ترامب بـ"الكلب ابن الكلب"، فلم يكن إلا مدعاة للحزن أكثر من كونه رفض عنتري لأمور تجري بعيدًا عنه، وتعبير عن أكثر اللحظات ضعفًا لشخص لا يملك مصيره ولا حتى مصير تلك الكلمات التي خرجت من شفتيه.

صفقة القرن

فيما تتجدد اللعبة التي ذكرناها أولًا: محاولة إقناع الشعب الفلسطيني بالفشل، والرهان على الوقت، وقياس مدى صلابته. هو نفس الخطاب الانتهازي المكشوف الذي ساد نهاية الثمانينات: فشل نموذج وانتصار آخر يتملك نهاية التاريخ. على ما يبدو أن النيولبيرالية لا تملك إلا هذه الصيغة من البشارة الفوكوياموية المفتضحة، والتي انكسرت بما تعرفه الدول الغربية اليوم من صعود للقوى التحررية.

لا يمكن فصل صفقة القرن عما طبخ في المنطقة طوال السنوات الأخيرة من الرهان على الأصولية الإسلامية إلى الاستقواء بالقوى الاستعمارية

لا أرغب في أن أكون متشائمًا أكثر، ولأتمسك بما بقي من أمل في الجهود العربية التي أبانت رفضها الصريح للصفقة، ولأتمسك بالأمل فيما لا يزال العداء للتطبيع قائمًا، وما ظهر عقب إعلان المخطط من رفض عالمي. أمل كذلك في اندحار ترامب وصعود الأصوات اليسارية المستجدة في الولايات المتحدة، ساندرز وكورتيس وغيرهما، الذين ربما يكونون قادرين على دحر الشبح إلى الأبد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"صفعة القرن".. حربٌ لا سلام

الغائب عن "صفقة القرن"