19-أكتوبر-2021

لوحة لـ أنسليم كييفر/ ألمانيا

يطلّ الرّجال ويرحلون، وحسن مشغولٌ باللّعب في مرسمه، يشيّد الجدران الواسعة بلوحاتٍ ممطوطةٍ لحيوات صغيرة يقطفها من حدائق العالم كلّما خرج في نزهة.

الطّفل الذي يمشي أمامي في الشّارع تائهًا، خائفًا من أن تقبض الحياة عليه، أن تقفل عليه في صورة ما، مغبّرةٍ ومتروكة.

حسن الذي يرتدي جوارب غير متناسقة كي يتخلّص من جسده تباعًا، كي يخزّنه في أماكن أخرى، يماثل بها الحيوانات المدجّنة والأليفة التي يرشدها إلى لوحاته. والماء ينمو من كلّ صوب، حاملًا معه سقوفًا ستتداعى بعد حين.

يمرّ الزّمن. يقفز الطّفل من جهة إلى أخرى مستغرقًا في أحلامه مثل الأسماك التي تشق طريقها إلى لوحاته، ضئيلةً ومتخمة بالبحر.

يجيء الرّجال ويرحلون وحسن صديقي يمشي بغنجٍ في الشارع وأسفل البيت وفي الحانات والمشارب وأسواق البقالة، مع سوارٍ أحمر في اليد وعقدٍ في الرّقبة يجعلها أكثر بياضًا وأعمق رغبة، مفتوحة أمام المهادنات الصغيرة والقبلات التي أرسلها له عابثًا، خائفًا من ألا تصله بريئةً ولطيفة، مثل نظراته التي تتلطّى وراء ثلاث نظارات مختلفة، تتغيّر بتغيّر الطقس وتبدل درجة الحرارة.

يخرج يده من النافذة ناعمًا وحنونًا والطريق تتشكل أمامنا والرّيح تهبّ من كل صوب، حاملة وجوهًا كان من الممكن أن تعيش معنا في الماضي في أغلفة الكتب أو فوقَ الرّفوف لو أننا انتبهنا باكرًا إلى الشّجر الّذي ينمو قرينًا في الأرصفة، ذاك الذي يكون شبه ناعسٍ كأن الحياة دومًا في مكان آخر، مقصّاة وبعيدة، من الأوراق التي يمكن أن تصنعها الشجرة لمرور جميل وصيفيّ لفتاة بتنورة قصيرة وأقراطٍ مفلوتة في الأذن اليمنى وشعر أسود مضبوب على بعضه كي لا يبتلّ. أو رجلٍ خائف على دراجة يتلفت حوله بين الفينة والأخرى، مع قميص مفتوح أمام الرّيح كي تعبر من خلاله، كي تتسلل إلى البقعِ الغافية في الجسد الناقص، تلك التي لا تراها الشمس ويغزوها النّمش المترامي على جنبيها مثل أشباح السينما التي تمر برهافة تاركة للمتفرج صدمة الغياب.

النّاس يمرّون كالعادة وحسن في بيته. يهادن المطبخ الذي يقضي فيه ساعات متفاوتة من النهار، مستكشفًا أكلات جديدة يراكمها على مائدة العائلة، أو نائمًا في غرفته، مستغرقًا بتأمل السقف الذي يكبر كلّما نظر في شروخه كي تتبدى السّماء واضحةً وصريحة في هذه الغشاوة الّتي تتطلب من الواحد أن يصير اثنين.

أتركه يسير في الشارع أمامي، كي أعبر من وراء ظهره وأشم الرائحة التي تعلو هذا البدن الغضّ، الوشمي والمفضوح في خوفه أمام عيون الجيران وعابري السبيل.

أداعبه بصمت. يضحك. أنساه على الأرائك ويغيب في نفسه.

ثم أنتشله بنظرة جديدة. يتطلّع نحوي كأننا قطعنا مشاعب الكلام المتمادية وهبطنا على الضفة الأولى حيث يتأهل البحر نفسه لأن لا ملاجئ له في أفواه الأسماك التي تتنزه تباعًا وتنتحر تباعًا وتنحسر في البعيد تباعًا، كي تتخلص من الحياة على مهل.

يقطف حسن زهرة، الزهرة ظلّ الطريق الذي يفسح المجال أمام الرجال الخائفين كي يعبروا. الزهرة تعني أن أحدًا ما هناك، خلف النافذة، ما يزال موجودًا، يتحرك داخل مساحات النوم، داخل الإطار المرسوم بحرفيّة واسعة ومختوم بحدود واضحة هي حدود غياب الشخص نفسه.

ينام على الأريكة، سوداء فسيحة، وسط البيت قريبة من الشرفة التي تنتصب في الطابق الرابع ولا تطل سوى على حاويات القمامة الشاردة في الخارج والشجر الذي يحرس موته ببطء، ساهيًا أيضًا عن جيرانه.

بيت حسن مسافة واهية بين رجل يولد كلّ يوم مفتونًا بالشّمس وآخر يموت في آخرِ ساعات النهار مشدوهًا بالعتمة، بالظلّ بالغياب.

حسن صديقي يترك ذقنه بيضاء ناعمة، يزرع الوسائد برائحته، ينشرها في كل أرجاء البيت كي يبحث عنه من لا يجيد النظر كثيرًا ولا التلفت خلفه.

أكبر معه في هذه الألفة كل يوم، مثل طفل خجول يتعرف إلى ألعابه ومتاعه، تاركًا وراءه الغيم والسقف والشجر النائم في الخلفية والمشاهد التي تسقطها الحياة أيضًا، دفعة واحدة لوجود عذب يطربهُ صخب الأماكن التي تركت مقفلة بغبار الشوارع كي لا تعثر عليها المفاتيح.

كل شيء يطفو. كل شيء يتبدد في غشاوة هذا الصيف ويدُ حسن تسابق الطريق بنعومتها. ترخي ظلالها على الشوارع والأرائك والأشجار التي ملت من اغتيال عصافيرها.

صديقي الخائف من البرد مثل عصفور ضيّع أمه في الثّلج. رجل أنتظره لشتاءات قادمة.

حسن صديقي الذي يلعب في الرمل، لأنه الرمل، يحمله في جسده، لأن البحر ينام دومًا خارج نفسه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ذاهبون إلى الليل

ديونيس ينتظرُ مِثْلي