18-فبراير-2017

عمال بناء آسيويون في دولة الإمارات (Getty)

هناك نماذجُ من البشر فيها من الخير والصبر عليه ما يستدعي الانحناء لها إعجابًا واحترامًا، بل إن الصبر على فعل الخير في زمن لا يشجع على ذلك كافٍ وحده لأن يجعلنا نطمئن إلى أن الحياة ما زالت على قيد الحياة. إذ علينا أن ننتبه إلى أننا بتنا في عالم لا يولي اهتمامًا إلا للأشرار، يكفي أن نركز على وسائل الإعلام يومًا واحدًا لندرك هذه الحقيقة، بل يمكن أن نلاحظ ذلك حتى في دور العبادة التي هي أصلًا دور للخير، معظم رجال الدين لا يتناولون بالحديث إلا الشر والتحذير من أصحابه.

 كنت في إحدى الدول العربية ووقفت على ظاهرة العمالة الأجنبية -من العامل لا العميل- حيث الحياة تقوم هناك على استقدام عاملات وعمال من آسيا، للقيام على معظم شؤون الحياة من المطار إلى الدار، وهؤلاء هم في الأصل فقراء جاؤوا لتوفير لقمة العيش لعائلاتهم في بلدانهم الأصلية، يتحملون الغربة وأوزارها بصبر جدير بالاحترام.

الخليج العربي هو حلم شباب آسيا، مثلما هي أوروبا حلم شباب الجزائر

سأحكي لكم قصة واحد منهم هو حسين من بنغلاديش، إنه شاب متزوج وأب لطفلين، قرر أن يهاجر إلى الخليج ليعمل هناك، بالمناسبة: الخليج العربي هو حلم شباب آسيا، مثلما هي أوروبا حلم شباب الجزائر، الفرق بينهما أن أوروبا تستقبل شبابنا خارج القانون، بينما تستقبل دول الخليج شباب آسيا داخله في شكل عمالة باتت حقيقة اجتماعية هناك، لذلك فقد ناضل صاحبنا حسين من أجل أن يتدبر المبلغ المطلوب حتى يتمكن من الوصول إلى الخليج العربي، بعضه لتذكرة الطائرة، وبعضه لمكتب الوساطة، كان حمّالًا في دكّا العاصمة مقابل دولارات معدودات في اليوم.

قال لي: "كنت أعدّ الأيام وأشعر بثقلها، فمع الحاجة يصبح الصبر على العدّ نوعًا من العقاب، والصبر على ألا تمد يدك إلى ما وفرته تحدّيًا كبيرًا مع النفس، والصبر على مغريات أن تترك عملك الحلال على قلة مردوده، وتذهب إلى عمل حرام على كثرة المردود اختبارًا لرجولتك وإيمانك.

اقرأ/أيضًا: النفط والبطالة: وجهان لدولة آل سعود

كان بن عمي على صلة بتجار السلاح وتهريب المتطوعين "للجهاد" في أفغانستان، وقد كان يعرض علي أن أنضم إليه لكنني رفضت، رغم أنني كنت قادرًا على أن أحصّل ثلاثة آلاف دولار في أسبوع واحد، وبجهد نصف ساعة فقط مما كنت أبذله وأنا حمّال، لكنني رفضت، لا خوفًا من الموت بل خوفًا من الله، لماذا أخاف من الموت؟، أنا أصلًا أعيش حياة تشبهه، لكن ماذا أقول لله حين أقف بين يديه يوم القيامة؟، هل أقول له إنني تاجرت بالأسلحة وهرّبت من يستعملونها في قتل الأبرياء لأنني كنت محتاجًا إلى المال؟

إن أوروبا تستقبل شبابنا خارج القانون، بينما تستقبل دول الخليج شباب آسيا داخله في شكل عمالة باتت حقيقة اجتماعية

أنا يا أخي صبرت في البنغلاديش حتى مل مني الصبر، ولا تظن أن علاقتي بالصبر قد انتهت حين جئت إلى هنا، ما زلت صابرًا على قسوة الغربة، على قسوة الشوق. مرة ذهبت إلى مسجد لأصلي الجمعة، وكان درس الإمام عن الصبر، فشعرت برغبة في النوم، لأنني أحسست من غير أن أعي ذلك بأني لست معنيًا بحديثه لأنني صابر بالفطرة. هل تعرف تلك الآية التي تقول إن الله مع الصابرين؟ قلت: نعم، قال: أنا لا أعيش في الحقيقة مع البشر بل مع الله لأنه لا يفارقني لأنني صبور.

فجأة أوقف السيارة، والتفت إلي: "لكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لا تتحدثون عنا أنتم الصحافيين، وتتحدثون عن شباب بن لادن والبغدادي الذين يخربون الدنيا والدين؟ بل لماذا لا يتناولنا الغرب عندما يتحدّث عن الشباب المسلم؟"، قلت: منذ متى لم تر أهلك يا حسين؟ صمت هنيهة استغلها في تشغيل السّيارة من جديد، وراح يحدثني عنهم بشوق الصّحراء إلى المطر.

اقرأ/أيضًا:
هل يودع العرب "زمن النفط الجميل"؟
تحديات الاستثمار في عدن.. الحرب والعمالة