29-يناير-2017

(Getty) وكالة أنباء كيودو

مثلي مثلكم تقريبًا، أطرق باب ويكيبيديا كل يوم لترحب بي العجوز مكررةً على مسامعي كأي ضيف عابر: "صدرُ البيت لك والعتبة لنا"، وأتبعُها مبتسمًا نافيًا ما تقوله، كأي ضيف خجول من حرارة الترحاب. نتبادل، أنا وهي، أطراف الحديث سريعًا لتعرف مني ما أحتاجه فورًا وتذهب لتنبش العجوز ما أريده منها من معلوماتٍ وتفرده أمامي على الطاولة، الطاولة المقابلة لصدر البيت تمامًا.

تذكرني ويكيبيديا بجدتي رحمها الله، لديها كل شيء ولا تخجل من ذكر ذلك

تذكرني ويكيبيديا بجدتي رحمها الله، لديها كل شيء ولا تخجل من ذكر ذلك، لا تتكلم معي بشكل مباشر إنما تتركني مستفردًا بما أريده على الطاولة وتتكلم مع نفسها لتشير بطريقة فريدة إلى الموجود وغير الموجود، حتى ولو كان ذلك روابط فارغة، أو حافظات زجاجية عليها الغبار ومُعَلَمَة بلصقاتٍ كُتب عليه بلغات مختلفة أسماء ما كان فيها، أو أسماء ما سيملؤها لاحقًا.

اقرأ/ي أيضًا: ويكيبيديا العربية.. بؤس ثقافي

اعتدتُ ألا أسأل ويكيبيديا في الليل المتأخر، واعتدتُ ألا أسألها دون أنْ أستأذن العم غوغل أولًا، فهو يجلس دائمًا بالقرب من الباب الأمامي وعلى مرمى حجر منه، فإذا لم يُشر لي بسبابته إلـى باب العجوز فإني أكمل وأمضي في طريقي، الشيء الذي لم يحدث إلا فيما ندر.

حصل مرة أنْ فتحتُ الباب دون استئذان أو "دستور" فكانت الطامة الكبرى، حيث كانت ويكيبيديا متكئة على الكرسي تحلم غالبًا بأيام شبابها الخوالي. استفاقتْ علـى صوت تكتكة خطواتي في رواق بيتها ولم تدرك بأنني "أنا" مِن الوهلة الأولى، فركتْ أذني وألقتْ على مسمعي كلمات لاذعة عن التربية الرديئة التي نشأتُ عليها. لذلك، ألتزم بطرق الباب منذ تلك الحادثة، وأخجل، كأن تكون متعبة من تنظيف الرفوف والروابط، والتأكد الروتيني الذي تفعله كأي عجوز لا تكل ولا تمل، كل يوم تحوم لتطمئن من أنّ الذي على الرفوف ينتمي إلى الرفوف حقًا تفاديًا لأي خطأ فادح قد يهز حفيظة من يطرقون بابها، مثلي كل يوم.

لأجل علاقتنا الطويلة، بعيدًا عن ذلك الموقف العارض والمحرج، عرضتْ عليّ أكثر من مرة أن تخصص لي حافظة زجاجية عليها اسمي ولكني رفضتُ، خجلًا، فما أنا إلا بزائر عابر وإن كنت أطرق الباب كل يوم. وبالإضافة إلى أنني أملك "قطرميزاتي" الخاصة، ولا أحتاج لأنْ أرمي بثقلي على العجوز الدؤوبة، ولا أريد أن أفرّط أو أنشر تفاصيلي الخاصة أيضًا خوفًا من أن يطرق بابي أحدهم يومًا فلا أجد ما أفرده أمامه وأملأ سواد عينه.

هل قلتُ "مثلي مثلكم"؟ أعتذر، فمثلي ليس مثلكم.

ضاقت الحال بالعجوز ويكيبيديا منذ فترة، فأرسلتْ لي خادمتها وحافظة سرها "كاثرين مار" رسالة بأنني ما زلتُ موقع ترحيب، ولكن "الحاجّة" تحتاج لترميم بعض الزوايا في البيت مترف الاتساع، مذكرة إياي بأنّها وحيدة لا تعتمد على أحد في حياتها سوى ما يتركه الزوار بعد كل زيارة، أو جلسة نصح وإرشاد، وبأنها سوف تكون سعيدة بتبرع صغير مني كرمى للزيارات غير المعدودة التي قمتُ بها بالفعل، ولم أرجع خائبًا أبدًا في نهايتها. لم أتردد كثيرًا، قمتُ بتعبئة الاستمارات اللازمة وتوقيع الأوراق المطلوبة لتحويل مبلغ قدره اثنين يورو من حسابي إلى حسابها، فويكيبيديا مسؤولة مني وأنا لا أهمل مسؤولياتي كأيّ "مِثلٍ ليس بمثله أحد"، وإن كنتُ لاجئًا يشبهني الكثير في التوصيف والخانة.

ضاقت الحال بالعجوز ويكيبيديا منذ فترة، فأرسلتْ لي أنها تحتاج لترميم بعض الزوايا

أرسلتُ بالفعل الحوالة ثم ألحقتها ببطاقة مكتوب عليها: "تقبلي مني هذه الهدية، وسأُلحِقُكِ بغيرها إنْ توفر لدي من المال ما يكفي. ابنك الفضولي المخلص، حمد".

اقرأ/ي أيضًا: رد على مقال: ويكيبيديا العربية بؤس أم أمل ثقافي؟

نمتُ في تلك الليلة مرتاحًا جدًا وأنا أدرك بأنّ بيت العجوز سيبقى مفتوحًا كما عهدته. لا أشك بأنّ المبلغ الذي أرسلتُه قلبَ كفة الميزان، وخفْفَ مشكلة العجوز "ويكي"، كما أنني لا أشك بأنني سأحصل على نصيبي من دعاء الزوار.
أنا من المقربين الآن الذين ينادونها "الحاجّة ويكي" أخبركم لكي تعرفوا بأنّ "مثلي ليس مثلكم".

أنا كما يقول المثل "أصبحت من أهل البيت"، ومنذُها تفتحُ لي الباب وترمي بما أريده من أشياء وروابط وقصص فأتأبطها وأجلس على العتبة مرتاحًا، كأي صاحب بيت، أقرأ وأنظر إلى العم غوغل الذي يشير لبعض الضيوف بالدخول، ويشير لبعضهم الآخر بالاستمرار في طريقهم، فما يسعون إليه ليس متوفرًا الآن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الإعلام العربي وتركيا.. أخطاء بمستوى فضائح

وسائل الإعلام.. مركز صناعة الوحوش