04-أبريل-2017

مقطع من لوحة جريمة شرف لـ هيفي كهرمان/ العراق- كردستان

كل ما يحدث في صباح هذا اليوم هو انتظار، أحاديث النساء وشجارات الرجال وصخب الأطفال وأحداث السوق وحتى جنازات الموتى، الذين لتعاستهم يموتون في هذا اليوم، كل ذلك لتمرير وقت الانتظار. الكل هنا ينتظر، حتى أن البعض يسأل ساخرًا ماذا سنفعل لو عاد موسى وانتهى انتظارنا؟ وموسى سافر منذ عشرة أعوام. وقبل هذا لم يقل لأحد "سأعود". بل ما حدث هو العكس من ذلك، فقد جاب البلدة بأكملها معلنًا رحيله وعدم عودته نهائيًا. سمعه الجميع وقبلهم فاطمة. فلماذا بقيت حكايته؟ منذ رحيله ولا حديث لهم غير موسى. قصة موسى، وصخرة موسى، وقطار الرابعة عصرًا، والأربعاء الأخير من شهر فبراير.. هي كل ما لديهم، كأن وحشًا عملاقًا يهدد عالمهم وما من جدار يقيهم غير تلك الحكاية.. حكاية موسى. 

لم تكن حكاية موسى مع الخضر، ولا كانت حكايته من الأساس، إنها حكاية فاطمة وحدها، لا دخل لسواها بها، ولا حتى لأبيها الذي لولاه لما حدث كل هذا. وهل شاركها أحد سرقة قلب الفتى النحيل؟ كلا.. ورغم غيابه وحضورها تحفَّظ التاريخ على ذكر اسمها. كأنما يعاقبها على ما فعلت.

ولدت فاطمة في البيت المجاور لموسى، كزهرة وحيدة في مزهرية العالم، نبتت في ربيعه الخامس لتعلق بصره بالنوافذ. تقلبت فوق نظراته إلى أن استوت أنوثتها ونضجت وتفتحت. كبرت وأطلقت جدائلها وضحكاتها الرنانة في روحه.. أحبها.. ولا يخفى هذا على أحد. لكن هل أحبته؟ ليس ثمة إجابة محددة لهذا السؤال عند أهل البلدة. البعض يقول إنها كانت صغيرة حينذاك، والبعض يراها فتاة لاهية لا أكثر. أطربتها قصائد العاشق المسكين، وأحبت رؤيته متوسدًا تلك الصخرة القابعة بأطراف المدينة وملتحفًا السماء المزركشة بالنجوم بينما ينتظرها. ألم تجلجل ضحكاتها كلما سمعت بعودته ممتطيًا سطح القطار، ومبيته عند الصخرة رافضًا دخول البلدة قبل بزوغ الفجر ولقائها؟ وماذا فعلت في النهاية؟ لا شيء. 

لكن يسأل غيرهم، وفي سؤالهم الكثير من الوجاهة والمنطق.. لماذا إذن صنع رحيله بها ما صنع؟ والإجابة ليست سهلة على أي حال. تتكاثف الاحتمالات وتتشابك ولا يجمع بينها سوى الشك. أيكون السبب هو الإدراك المتأخر؟ ربما.. فلا يبكي الجميع حيال الموت، وهو الفجيعة الكبرى، إلا فيما بعد. وربما السر في تلك الصبغة الجميلة التي تكسو كل القطارات عندما نبصرها مبتعدة دون التفات لمواقعنا على الأرصفة. وربما لأنها لم تكن قد اختبرت غيابه عندما تركته يرحل بمفرده. وربما وربما وربما.. هناك ألف ربما. والتاريخ لا يلتفت لتلك الألعاب. فما حدث هو ما حدث، هكذا وفقط. 

وما حدث أن الحاج رضوان رفض زواج موسى من فاطمة، رفض بكل ما أوتي من قوة وإصرار، وباءت كل محاولات إقناعه بالفشل، ولم يكن قراره متعلقًا بشخص موسى من قريب أو بعيد، فالأمر ببساطة هو المشادات والتراكمات المعتادة التي تنشأ بين الجيران! من ألقى السلام على من، ومن قطّب في وجه من.. وإلخ. 

عداوات تافهة لا ينشأ مثلها بين قطعان الماشية، لكنها تحدث بين البشر. وحدثت بين رضوان ووالد موسى، وموسى بشهادة الجميع لم يقصر. ألح عليه وجمع الأموال وساق عليه طوب الأرض. حتى أنه كان يعود من عمله في البلدة المجاورة على سطح قطار الرابعة لتوفير ثمن التذكرة. شيّد لنفسه بيتًا جديدًا على عكس العادة، ورغم ذلك لم يتحرك الحاج رضوان عن موقفه قيد أنملة. بل إنه قرر تزويج البنت لابن عمها بمجرد عودته من الخليج. فلم يجد موسى بدًا من التفكير في الهروب بها. أرض الله واسعة، والعاشق لا يعرف المستحيل. أليس كذلك؟

لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لفاطمة، لم تستسغ الفكرة، لم تتصور أن تعرض أباها الحاج رضوان الطيب لمثل هذا. كيف ترد له جميل معروفه وحسن رعايته بمستقبل من الذل وتنكيس الرأس؟ وهي تحبه، تحبه للدرجة التي تعميها عن رؤية موقفه من موسى ظالمًا. وهي تحب موسى أيضًا. وموسى لا يكف عن مطالبتها بالهرب معه. رفضت ولم ييأس، يسافر للعمل طيلة العام ويحمله قطار الرابعة عصرًا في الأربعاء الأخير من شهر فبراير، يبيت أسبوعًا عند الصخرة عساها تأتي ولا تفعل. في العام التالي فعل الأمر نفسه وكذلك فعلت. انتظرها كثيرًا ولم تأتِ.

الأنباء السيئة لا تعدم وسيلة للوصول، حتما ستصل، فعلم موسى بنبأ عودة ابن عمها وجن جنونه. ذهب لبيتها وطلب منها الذهاب معه. الآن وحالًا. الآن يعني الآن يا فاطمة. ليس أمامنا فرصة. ولما تعللت بأبيها.. لعنه. جاب البلدة كلها يلعنه ويلعنها، صرّح بحبها وصرخ، أعلن عن رحيله وعدم عودته.. وكذلك فعل. 

رحل موسى ولم تصل عنه أي أنباء بعد ذلك، أما فاطمة فتزوجت في العام نفسه، وهي جميلة لا تزال، جدائلها طويلة كما هي، قوامها رشيق كما كان، والسحر المنبعث من أعماق عينيها الواسعتين لم يخفت. فلماذا أصبحت رؤيتها تثير الشفقة في النفوس؟ أي لعنة تلك التي حلت بها؟ لا أحد يعلم. فلم تمضِ عدة أشهر على زواجها حتى جاء فبراير وفي جعبته أربعاء أخير وقطار الرابعة. حينها تكحلت وتزينت، ذهبت عند الصخرة ومكثت. طالعت أسطح القطارات ولم تعثر على شيء.

وفي فبراير الأول تبعها الحاج رضوان وأعادها لبيتها بشيء من العنف وكثير من الحكمة، حاول تكتم الأمر وخاب مسعاه. وفي المرات التالية رآها الجميع والحاج رضوان يجرها بمعاونة ابن أخيه. صفعات وركلات وجذب عنيف يكاد يخلع ضفيرتها من رأسها. وصار المشهد طقسًا سنويًا في حياة أهل البلدة، لا يتخلف أحد عن حضوره إلا للشديد القوي. واليوم هو الحادي عشر في حكاية موسى. فهل يعود؟ الكل يسأل ولا أحد يجيب، والحق أنهم لا ينتظرون إجابة، هم فقط ينتظرون الساعة الرابعة.. 

عند الثالثة عصرًا كان الجميع هناك، سبقوها نحو الصخرة، ولم يشغلهم إن كانت ستتمكن من المجيء ككل الأعوام السابقة أم لا. كلهم سمعوا بتهديدات الحاج رضوان بقتلها، وهي تهديدات يطلقها منذ عشرة أعوام. لكنها جاءت.. أفسحت لنفسها طريقًا بين الواقفين أوصلها لصخرة موسى. لم يهتم أحد بحضورها فقد شغلتهم تلك الجهة التي سيطل منها القطار بعد قليل. وكالعادة.. تبعها أبوها. جاء الحاج رضوان ووقف أمامها، يفعل ما يفعله في كل مرة، وحتى هذا لم يشغلهم. فما إن سمعوا صافرة القطار حتى التفتوا نحوه، فلم يروا الحاج رضوان وهو يغرس سكينه في صدرها.. فقط رأوها تتهاوى فوق الصخرة والدم يسيل بجانبها. وتحولت وقفتهم الصامتة إلى فوضى عارمة، الكل يقترب من الصخرة ومن الحاج رضوان، بكاء وعويل وضجيج يقارب صافرة القطار.

وبينما هم كذلك.. لاح القطار أمامهم، وأبصر أحدهم شخصًا فوق سطحه، وسأل أيكون هو؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

ريشة سوداء

مثلما يتكتكُ اسمكَ في قلبي