27-مايو-2016

المفكر العربي عزمي بشارة في زيارة سابقة لصبرا وشاتيلا (Getty)

قبل سنوات كنا سنستغرب أن تنشر صحيفة عربية معروفة مغالطات سافرة وتجهيلًا صرفًا. ولكن في هذه الأيام لم يعد يثير استغرابنا أن تفتح صحيفة معروفة صفحاتها لعملية التجهييل المقصود لقرائها. وبلغ الأمر من الرتابة حد أن لا يحفل به المرء. ما يقودنا إلى التنويه والتنبيه في هذه الحالة هو أن التجهيل والمغالطة والتزييف في الجريدة تمس بوسائل إعلام أخرى. وهذا لا يصح أن يمر دون تنويه وتنبيه وتقريع مستحق. فالزمالة تقضي أن تدافع صحيفة عن صحف أخرى منعت وحجبت في بلدهاـ ومع أن توقعاتنا في هذا الشأن منخفضة، إلا أن هذا لا يعني أن نصمت على تحريض على وسائل إعلام أرقى وأكثر مهنية من صحف البلاط التي تحولت إلى أدوات في التشهير بكل ما هو وطني وديمقراطي وتقدمي، ومهني أيضًا.

من الشائن في سيرة أي صحيفة ورود عمود لأحد كتابها لا يؤلفه إلا الكذب والجهالة

في صحيفة "عكاظ" السعودية، مقال رأي، بل أصغر من مقال للمدعو محمد الساعد يهاجم فيه جملة مشاريع إعلامية عربية مهنية وازنة، صارت سمة سنواتنا الأخيرة على الساحة الإعلامية العربية، ومع كون الهجوم لا يرتقي إلى مصافي المقولات التي تستحق ردودًا رزينة، إلا أن تكاثر هذا النمط من التجهيل يجعل تفنيد الزيف مهمًا وضروريًا ولا يُسكت عليه.

اقرأ/ي أيضًا: "التجمّع".. نتنياهو يقود الهجوم

ومن موضوع التجهيل الأهم ينطلق المقال، عبر سوق حديث إعلامي مزيف يدعي الكاتب أنه شاهده مع الدكتور عزمي بشارة، ويسوق ما يدعي أنها مقتطفات من حديث بشارة، وكأنه يكشف بذلك حقيقة غابت عن الناس. والمقصود هو مقابلة أجريت مع د. بشارة حين كان محاضرًا معروفًا في جامعة بير زيت قبل حوال 25 عامًا قال فيها من بين ما قله في حلقة حول القومية "إننا لا نقول أمة فلسطينية، ولكننا نقول شعب فلسطيني"، وهذا كرد على التقسيم الاستعماري. وقد قام نشطاء صهاينة أمريكيون بعد سنوات بترجمة المقطع حتى كلمة "لا نقول أمة فلسطينية" وتركوا "نقول شعب فلسطيني" بدون ترجمة. المثير للسخرية أن لا يجد أمثال هذا الشخص سوى هذا التزييف الصهيوني المغرض على نمط "ولا تقربوا الصلاة" لسوقه ضد بشارة الكاتب والمفكر المعروف الذي كتب في الفلسفة والفكر السياسي، ولكن له كتابات مهمة منشورة عن القضية الفلسطينية وغيرها منذ تلك الفترة. ويمكن للكاتب الاستعانة بأي شاب سعودي مثقف للحصول على كتابات د. عزمي بشارة. التي يمتلكها الشباب حتى في الدول التي تغلق فيها أجنحة دور النشر في المعارض.

 لا يجد المغرضون سوى التزييف الإعلامي الصهيوني المدروس لسوقه ضد عزمي بشارة

الكذب هذا أقل من أن يكون موضوعًا لمقال، ويفنده أي حديث منشور ومكتوب ومسموع لبشارة المناضل منذ شبابه حين أسس اللجنة القطرية للطلاب الثانويين العرب داخل الخط الأخضر، مرورًا بالحركة الطلابية في الجامعات، وحتى تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، وحتى خروجه مطاردًا من وطنه بتهمة دعم المقاومة، التي يقف ضدها أمثال هذا الكاتب.

يمكن مثلًا للوقوف على تصور شبه عام لبشارة من حال القضية الفلسطينية اليوم متابعة كلمته في افتتاح أحد مؤتمرات "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي يصفه الكاتب بـ"العملاق" وهو في هذه محق. ومن اللطيف هنا لفت انتباه الكاتب لمقدار سذاجة ما يقول وضعف قدرته حتى على سوق تشهير معقول، إلا أنه التجهيل الذي تمارسه صحف بهذا الحجم بحق قرائها، بل الاستثمار بالجهل حين تسمح صحيفة وفريق تحرير مرور هذه الخربشات التي لا يقبلها حتى عقل قاصر. السؤال هنا: ما هو التاريخ النضالي لكاتب هذا المقال؟ وماذا فعل هو من أجل فلسطين والأمة العربية؟ وهل قال شيئًا مؤخرًا عن محاولات التطبيع الجارية بين بلده وإسرائيل؟

بدأ إعلام العجائب المصري في التشكيك بانتماء الفلسطيينيين الباقيين في الأرض المحتلة سنة 1948 عبر مهاجمة نضالهم ورموزه

ومضيًا في التجهيل واتساقًا مع حملات مستمرة، بدأت في إعلام العجائب المصري، في التشكيك بانتماء الفلسطيينيين الباقيين في الأرض المحتلة سنة 1948، التي صارت إسرائيل. ينبري مشبوهون كثر لإبراز جزئية أن فلسطيني 48 يحملون جوازات سفر إسرائيلية، في محاولة للَّمْز والتشكيك فيهم. بدلًا من أن تشرح الصحف والصحفيون المتظاهرون بالانشغال بالشأن الفلسطيني لجمهورها وقرائها واقع الحال في فلسطين، تتغابى لتستخدم هذه الفكرة للمز، وتستثمر في تجهييل وجهل عرب كثيرين بواقع الحال الفلسطيني، على طريقة النظم العربية المتاجرة بقضية فلسطين اسمًا دون أن تحفل بتفاصيل حياة الفلسطينيين وواقعهم، فلسطين مجرد شعار للهجوم والمناكفات، حتى من قبل المسؤولين عن ضياعها، أو المسارعين لاتفاقات سلام وتنسيق مع إسرائيل.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يزعج عزمي بشارة إعلام السيسي.. إلى هذا الحد؟

هذا التجهيل والتشكيك الذي يطال فلسطينيين قاوموا اللجوء والتشرد وتمسكوا بوطنهم وقادوا حراكا سياسيا مستمرا قائما على مجابهة المشروع الصهيوني ورفضه كفعل يومي، هذا التجهيل والتشكيك هو الخيانة الأولى لفلسطين، وهو ما يكشف تهافت أي حديث عن إسرائيل كخطر. ولأن التذكير بالبديهي صار مطلوبًا كما يبدو، من المهم القول إن الجنسية الإسرائيلية ووثائق السفر الإسرائيلي مفروضة فرضًا على كل فلسطيني داخل الأرض المحتلة سنة 1948، لكي يبقى في وطنه. ليس هذا وحسب، فإن كل وثيقة وتصريح للفلسطينيين في الضفة وغزة ممهورة بالموافقات الإسرائيلية.

وبالانتقال إلى الهجوم على المؤسسات الإعلامية المعروفة التي يربطها صاحب الأسطر الساذجة بعزمي بشارة (والأخير ليس صحفيًا ولا مالكًا لصحف، ولا تربطه بغالبيتها أي علاقة) يتكرر سؤال ملحّ في السنتين الأخيرتين، مفاده: لماذا تثير المؤسسات الإعلامية التي ينسب له تأسيسها، كل هذا الانشغال؟ إنها تشْغَل المحسوبين على النظام السوري وظلاله في بعض الدول المحيطة بسوريا. ثم في مصر إعلام السيسي، وأخيرًا في مساحات خليجية ضيقة؟ إنه لشرف عظيم أن تحجب صحيفة في السعودية وسوريا والإمارات ومصر. إذا كنت ديمقراطيًا وتجندت ضدك أقلام البلاط في هذه البلدان وإسرائيل أيضًا، فلا بد أنك على الطريق الصحيح. هذه شرف للعربي الديمقراطي.

أعداء شعوبهم هم حلفاء إسرائيل منذ قيامها، والاستبداد يشتري عمرًا له بالتحالف مع إسرائيل

فلنحاول، وبتأنّ، استخلاص شيء من السطور الركيكة في المقال، وباستثناء جزئية استخدام فلسطين وإسرائيل لتحريك مشاعر القراء ثم تجهيلهم والتي يظهر جليًا أنها لا تهمه فعلًا وأنه ولا اهتمام لصاحب المقال بها في كل ما يكتبه في "عكاظ" و"الحياة"، فإن النقمة مركزة على الانتفاضات العربية وكل من يناصر حقوق الشعوب العربية. إنه الخوف من شبح الديمقراطية. فلا تتأخر زلات اللسان والقلم، لتكشف حقيقة موقع هذه الفئة المهاجمة لجملة المشاريع الإعلامية المذكورة (وبعضها متأثر بفكر عزمي بشارة). هم معادون لأي توجه ديمقراطي يحقق مطالب البشر في الشوارع، هذا كابوسهم الأكبر، ولذلك يدعمون الاستبداد في كل بقعة، هم أقلام جاهزة للدفاع عنه وعن القتلة، وللهجوم دوما لمن خلق مساحة وصوتًا للمطالبين بحقوقهم وحريتهم منذ 2011.

إن وجود تيار ديمقراطي عابر للأيديولوجيات المختلفة التي من حق أي عربي الاعتقاد بها، هي الإضافة التي يدرك هؤلاء أنها تتوفر في المساحات الإعلامية التي يهاجمونها، وهو بالضبط سبب الهجوم. وإن نقاش الديمقراطية بما هي وعاء جامع، أرفع من أن يفلحوا في المساهمة به، فيعوضون هذا النقص بركاكة، مطمئنين إلى أن من يهاجمونهم منشغلون بقضية الحرية والديمقراطية والإعلام الاحترافي والصحافة المهنية، وهم يحققون الإنجازات يومًا بعد يوم، وهذا ما يقوله المهاجمون أنفسهم، فأن تصف مؤسسات إعلامية انطلقت خلال سنتين بالإمبراطورية لشيء يبعث على الغبطة، ويحق للصحفي أن يفخر بكونه جزءًا منها، بل ونأسف نحن في "ألترا صوت" مثلًا لأننا لسنا جزءًا منها.

اقرأ/ي أيضًا: الاستبداد العربي.. مقايضة البقاء بالتراب الوطني

من الطريف أن الصحافة الإلكترونية توفر لنا سجلًا كاملًا لكل كاتب لم نسمع به قبلًا، فنجد خلاصة ما يقدمه للجمهور من مكائد وتشهيير

ثم إن قلق هؤلاء ظاهر وشديد من اتساع جمهور وسائل الإعلام هذه في الدول العربية المختلفة، رغم حظر كثير منها في دول شتى، ومن ضمنها السعودية والإمارات ومصر، حتى يبدو الأمر وكأن هدف حملات التشويه الخالية من أي نقاش جدي لما تقدمه وسائل الإعلام محل الهجوم، هو تكدير علاقتها مع دول ومجتمعات عربية تحظى فيها بحضور مضطرد. والاستمرار في إظهار الشغل الصحفي الجاد كخطر يحيق بالدول العربية، في مخالفة سافرة لبديهيات العمل الصحفي. ويمكن لأحدنا القول بكثير من الضمير المرتاح، إن الهجوم على وسيلة إعلام بسبب جهدها في إظهار المعلومات وتعميمها على الجمهور، من أهم ما يصب في رصيد مهنيتها وتأثيرها. وهذا مما لا يفهمه من لا يرون في الصحافة إلا تجهيلًا مفتوحًا للعامة وتزلّفًا من النظم الحاكمة ومقايضة الحقيقة بالمنافع والأعطيات.

من الطريف هنا الانتباه إلى أن حملات من هذا النوع يخلط فيها المهاجمون الحابل بالنابل، دون حتى بذل جهد صحفي متواضع لمعرفة ملكيات وسائل إعلام يهاجمونها، فيقعون في مغالطات مضحكة، أو ربما وردتهم قائمة بوسائل الإعلام المطلوب مهاجمتها فجمعوها اعتباطًا في مقال واحد لاختصار الجهد الرخيص أصلًا. ومن الطريف أيضا أن الصحافة الإلكترونية توفر لنا سجلًا كاملًا لكل كاتب لم نسمع به قبلًا، فنجد خلاصة ما يقدمه للجمهور من مكائد وتشهيير، ومعها ترحيب بالدور الروسي في سوريا وفي صحيفة سعودية! هذا مما يدلل ألا أحد يقرأ هذه التهويمات أصلا ولا ينتبه لها، ولكن السكوت عن التجهيل لم يعد خيارًا وبات فعلًا غير أخلاقي.

أخيرًا، إلى متى سيظل القارئ العربي في مخيال هؤلاء قاصرًا؟ يمكن أن نخرج عليه مستخدمين حيلة إسرائيل لتشويه تيار ديمقراطي عربي مؤثر، ثم في مقال ثان نمجد ونحتفي بحكم عسكري يحرس إسرائيل كما لا يحرسها جنودها؟ ثم مطبعون مع إسرائيل يهاجمون وطنيين فلسطينيون ويتهمونهم بالخيانة... إلى متى يظنون أن الجمهور العربي قاصر عن إدراك أن هؤلاء حلفاء إسرائيل الحقيقيين، وأن أعداء شعوبهم هم حلفاء إسرائيل منذ قيامها، وأن الاستبداد يشتري عمرًا له بالتحالف مع إسرائيل؟ إلى متى سيظل هؤلاء يعتقدون أن معدل الذكاء عند قراء صحفهم أدنى من إدراك أن عقيدتهم الوحيدة هي الدفاع عن الاستبداد، والخوف من أي بديل غيره، ثم تأليف تهويمات كثيرة يسمونها مقالات رأي، لا تحترم حقيقة ولا قارئًا. 

اقرأ/ي أيضًا:

إعلام إسرائيل الحاقد على عزمي بشارة

في أي حلم إسرائيلي ورد السيسي؟!