23-نوفمبر-2018

عبر الملف الذي نشرته الغادريان عن تساهل في أوساط صحافة اليسار الليبرالي مع ظاهرة الشعبوية (الغارديان)

أعدت صحيفة الغارديان البريطانية، في الأيام الماضية، ملفًا كاملًا حول ما سمته "الشعبوية الجديدة" وانتشارها الواسع في الغرب، فيما نشرت تحليلًا عن خيارات قرائها، من خلال إعداد اختبار سريع يقيس ميلهم نحو الشعبوية.

وفق تصنيف الغارديان، فإن أي موقف نقدي من الجماعة التي تسيطر على النظام السياسي، في أي مكان، سيجعلك شعبويًا!

عبّر الملف الذي نشرته الصحيفة عن المفهوم الفضفاض والواسع وربما العصي عن التعريف للشعبوية، كما أكد على وجود تساهل في أوساط اليسار الديمقراطي وفي منصاته، في التعامل مع هذه الظاهرة المركبة. وفي حين أن النتائج كانت مروعة، وأظهرت من خلال تحليل سلوك مئات الأحزاب الأوروبية تصاعدًا مهولًا في الخطاب الشعبوي، فإن الاطلاع على أسئلة الاختبار الذي وضعته للقراء، يكفي لفهم كثير من هذا الجدل، ويشير إلى مواضع مليئة باللبس داخله، وحتى في طريقة بنائه وأسلوب الإجابة عليه وتلقيها.

كلكم شعبويون!

في الشق الأول، يبدأ الاختبار بأسئلة عامة عن الموقف من القومية والسوق الحر، ثم من زواج المثليين أو تبنيهم لأطفال، والموقف من العلمانية وتدخل الكنيسة في السلطة، وبعض القضايا الحقوقية. أما في الشق الثاني الذي يبدو الأهم، فسُيطلب رأي المشارك فيما يتعلق بالاعتقاد أو عدم الاعتقاد بوجود أقلية تتحكم بالسلطة لمصلحتها الشخصية، آبهة أو غير آبهة بمصلحة الجمهور. ومن خلال الملف إجمالًا، الذي كان هذا الاختبار جزءًا منه، ركزت الصحيفة البريطانية على الاعتقاد بوجود نخبة فاسدة تتحكم بمصير الدولة، لتحديد تعريف واضح للشعبوية، مغفلة أهمية النقاش الذي عاد للواجهة أوروبيًا، بل وعالميًا حول الأوليغارشيات الظاهرة والخفية ونقاش الدولة العميقة بعيدًا عن شعارات نظرية المؤامرة.

اقرأ/ي أيضًا: هل ستصمد الديمقراطية أمام شعبوية ترامب؟

تستشهد الغارديان برأي الباحثة في هذا المجال، كلوديا ألفاريس، مثلًا، للقول إن نجاح السياسيين الشعبويين مرتبط بشكل مباشر في قدرتهم على إقناع مؤيديهم بأنهم لا ينتمون للأنظمة السياسية التقليدية، وأنهم لا يقفون في صف النخب الفاسدة. وبالتالي فإن الشعبوية وفق هذا الرأي تقوم على إيمان الناس بوجود مجموعات قليلة من الناس تسيطر على الحكم وفقًا لمصالحها الخاصة، أو بأن السياسيين يجب أن يكونوا قريبين بشكل شخصي من الناس. كما لوحت الصحيفة، بهذا الاستخلاص عبر ملفها، بشكل ما إلى تحريم الاعتقاد بإمكانية الفساد في حالة النظم الليبرالية البرلمانية وتجريمه. إضافة إلى قول، مسكوت عنه، مفاده أن السياسة صنعة لا يؤمها إلا أبناء "المؤسسة". 

باختصار، فإن أي موقف نقدي من الجماعة التي تسيطر على النظام السياسي، في أي مكان، سيجعلك شعبويًا. لقد بدا وكأن الغارديان تريد أن تقول لنا جميعًا إننا شعبويون، من دون حتى مراعاة السياقات الثقافية والسياسية التي تتبلور خلالها المواقف.

كما بدا أن صحيفة الغارديان وقعت في فخ جعل النقابيين، أو كل من يحمل مطالب شعبية، معيشية وليس بالضرورة قومية أو ثقافية أو هوياتية، شعبويًا. بل وممارسة لعبة التجريم مجددًا بشأن طرح البرامج الاجتماعية واقعيًا. في هذا السياق، فإن الاختبار يضع حزب بوديموس الإسباني، الذي يستلهم الربيع العربي كما أوضح في بيانه التأسيسي ومطالبه، ويحمل مواقف حقوقية ونقدية، ومؤسسه بابلو إغليسياس، كممثلين عن الشعبوية اليسارية، مقابل دونالد ترامب الذي تم اعتباره ممثلًا عن اليمين الشعبوي. وهي التصنيفات التي لم توضح الصحيفة الأساس الذي قامت علي، لتؤدي إلى حشر من يطالب بمسطرة حقوقية متكاملة على ذات الإيقاع مع من يغزو هذه الجملة الحقوقية بالجملة!

بعد أكثر من تجربة للاختبار، سيتبين أن المواقف المرتبطة بقبول زواج المثليين أو بجل القضايا الحقوقية والاختلاف السياسي، لا تكفي حتى يتجنب المشارك أن يكون شعبويًا. حيث إن هناك محددات جدلية وحاسمة أكثر، مرتبطة بالموقف من فساد الأقلية الحاكمة، والشعور بأن هناك من يتحكم بمصير العامة دون مراعاة حقوقها أو صالحها العام المشترك، إلخ. بالإضافة إلى الموقف من القومية والشعور القومي. وفي حال عدم تأييد البنود المتعلقة بالقومية أو بوجود أقلية فاسدة متحكمة بالسلطة، فإن النتيجة ستكون "إيجابية" من منظور تبرئة الغارديان للمستجيب من فخ الشعبوية، أي أنك لن تكون شعبويًا سواء كنت يمينيًا أو يساريًا.

اقرأ/ي أيضًا: هل تحكم الشعبوية المجتمع الغربي؟

في حين يبدو مقنعًا أن اليمين الشعبوي تحديدًا، يستغل مخاوف الناس وشعورهم بالاضطهاد والاستغلال من الأقلية التي تسيطر على الدولة، فإن أسهل الطرق لمواجهة هذا الاستغلال، هو القول بعدم وجود هذه النخب أو هذا الفساد. إن المغالطة التي ينبني عليها تحليل الغارديان، مرتبطة أساسًا بوصف الشعبويين، لا باعتبارهم أولئك الذين يستغلون ويوظفون مخاوف العامة وشعورهم بالمظلومية، ولكن بوصفهم أولئك الذين يشعرون بالمظلومية والخوف نفسهما، ليمسي من يقع تحت وطأة الشعبوية الفاشية شعبويًا، بينما من يمارس الشعبوية الوسطية ويعبر عن قناعاته اليمينية مغلفًا إياها بـ"مكياج" ليبرالي حقوقي ناجيًا من سيف الغارديان!

 الخوف من الخوف والخوف من صناعة الخوف

تحظى المنصات الشبيهة بالغارديان، بجزء كبير من شرعيتها باعتبارها منصات لإنتاج خطابات مناهضة للشعبوية، وهو ما يعني أن ثمة مصلحة جدلية ومشتركة، تنشأ بينها وبين هذه الظاهرة، إلى درجة تبدو فيها صحف الوسط الأوروبي واليسار المؤسساتي، حريصة على الترويج للانتشار الواسع للشعبويين، وهو ما يجعل تحديد ما هو أو من هو شعبوي، أمرًا غير مبني على معايير واضحة أو صارمة.

لقد بدا وكأن الغارديان تريد أن تقول لنا جميعًا إننا شعبويون، من دون حتى مراعاة السياقات الثقافية والسياسية التي تتبلور خلالها المواقف

إذا كان الخطاب الشعبوي، في شقه اليميني على الأقل، قائم على نشر مخاوف عامة من اللاجئين والغرباء والمثليين والترويج لها، ويكتسب شرعيته من قلق الناس، فإن هناك خطابًا مضادًا، ينشأ داخل الأوساط التي تعبر صحيفة الغارديان عن جزء منها، قائم على الخوف من هذا الخوف نفسه. وهو ما يجعل مقولات على غرار انهيار الديمقراطية الليبرالية، وانتهاء عصر النظام السياسي الديمقراطي والليبرالي في الغرب، تتصدر عناوين وصفحات هذه المنصات. كل هذا بتهويل إعلامي يقفز إلى النتائج قبل المسببات، ويتناول الأعراض قبل العلل، ليمسي مكونًا أصيلًا من أزمة الشعبوية واصطفافاتها، مشكلًا أحد أخطر أشكال التحريك الموجه بعيدًا عن جذور "المصيبة".

لا بد من الإشارة، إلى أن هذا النوع من الديستوبيا أصبح رائجًا عند هذه التيارات، إلى درجة أنه لم يعد منفصلًا عن تعريفها لنفسها ولدورها. وبشكل أساسي، فإن هذه المخاوف من الانتشار الكاسح للشعبوية، أصبحت مرجعية أساسية للاصطفاف السياسي. ولا بد في هذا السياق من الإشارة، إلى المغازلات الطويلة التي نشرتها الغارديان في الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أثناء ترشحه ضد مرشحة الجبهة اليمينية مارين لوبان، والتي استمرت لفترة متأخرة، رغم كل الانتقادات الموجهة ضده، من الناحية الحقوقية وسواها. كما أنها قامت بتصنيفه في هذا الاختبار، جنبًا إلى جنب مع باراك أوباما، كممثلين لليسار غير الشعبوي. هذا كله رغم ما اختبره العالم في حقبة أوباما من تصاعد وتعقيد للإمبريالية الأمريكية، وما يشهده الآن بشأن رديفتها الفرنسية الخارجة من عباءة ماكرون "الوسطي". عوضًا عن الانتقاصات الحقوقية الشاسعة عماليًا وصحيًا وتعليميًًا التي قادتها برامج أوباما سابقًا، وماكرون الآن، في ظلال خطابهما القائم أساسًا على المخادعة المتعامية عن الفارق بين الوضع القائم الذي يخلقه وبين الوعود التي يطرحها.

 البسطاء والمغفلون والخبز

حتى في أفضل حالات هذا الخطاب، فإنه يميل إلى اعتبار أن الحركات الشعبوية، تقوم باستغلال الناس البسطاء، وتسييرهم على هواها. يتكرر هذا التحليل على لسان أكثر من خبير تستشهد بهم الصحيفة، بينما يحال نجاح الحركات الشعبوية إلى الناس أنفسهم، باعتبار أن هذه الحركات تقدم لهم خططًا سحرية وإجابات سهلة لمشاكلهم.

إن المشكلة الأساسية في هذا التحليل، الذي لا تنفك منصات اليسار الليبرالي الأوروبي تورده، أنه قائم في الأساس على فهم هذه الظاهرة، باعتبار أنها نشأت بمعزل عن أي خطاب آخر، وبمعزل عن أزمة الشرعية في الأنظمة السياسية القائمة.

يؤرخ هذا التحليل مثلًا لنجاح الشعبوية من خلال موجهة الهجرة الكثيفة في عام 2015، وكأنها ظاهرة ولدت في موضعها، منعزلة عن أي سياق اجتماعي أو سياسي آخر.

إن تراجع شعبية الأحزاب أو التيارات السياسية التي طالما بنت شرعيتها على الناس، غالبًا ما يجعلها تحمل مسؤولية الفشل على الناس أنفسهم. أما الديمقراطية التي توصل سواهم إلى السلطة، فتصبح في موضع مسائلة واختبار من جديد. هذا هو العرف الذي أسس له فشل تحالف أوباما-كلينتون، وفوز ماكرون بشق الأنفس، بينما تذهب الغارديان أكثر في تبني خوارزمية اختبارية قائمة في أساساتها على افتراضات مأدلجة لفحص تفاعلات واقعية سياسية. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفاشية الإيطالية المتجددة.. باقية وتتمدد!

أوروبا واليمين.. عصر الظّلام المُقبل