14-يوليو-2016

مشهد من فيلم red desert للمخرج مايكل أنجلو أنطونيوني

أفلام مايكل أنجلو أنطونيوني مفتوحة بلا نهاية عادةً، لا تنتهي بنهايات سعيدة، وإنما تأخذ شكل الدوائر وتعيدنا إلى نقطة البداية بعد أن تدور بنا في متاهة، وتطالبنا بالتأمُّل والتفكر والبحث، ولذلك فعندما تشاهد فيلمًا له فلتتوقع أنك ستشاهد هيتشكوك بنكهة إيطالية بما يعنيه من قلق وتوتر وترقب وأناقة في تكوين الكادر.

أفلام أنطونيوني أقرب ما تكون إلى الأحلام والتساؤلات والألغاز، تظهر الشخصيّات وتختفي بلا سبب، ترحل في متاهات المُدن العملاقة لتبحث عن أصالة مفقودة وتعود من رحلة بحثها الطويل وتشرع في استكشاف مكان آخر. أنطونيوني بارع جدًا في تصوير العزلة النفسية مستخدمًا الهندسة المعمارية كمبنى مهجور في الخسوف، أو جدران مُحيطة بالبطلة في الليل، أو مبانٍ وعمارات مهدمة في الفيلم نفسه.

برع أنطونيوني جدًا في تصوير العزلة النفسية مستخدمًا الهندسة المعمارية

لا تحكي أفلامه عن شخصيّات وإنما عن أجواء وكائنات وحطام بشر تبحث عن معنى للحياة وقيمة للوجود، وتتساءل إن كانت الحياة جديرة حقًا بأن تُعاش في عالم فقد فيه البشر قدرتهم على التواصل. ففي حين اهتمت الواقعية الإيطالية الجديدة لعلاقة الفرد بحركة التاريخ والمجتمع طالب أنطونيوني بواقعية "داخليّة" تركز أكثر على الفرد في علاقته بعواطفه ومشاعره و"التحديق" الداخلي كما في قصائد المتصوفة العرب، ومن ثم بعلاقة الفرد بكل العناصر في الكون والأفلاك والموجودات.

لقد كانت سنوات أربع قد مرت على الصخب الذي حققه فيلم المغامرة خلال دورة عام 1960 في مهرجان كان، خلال تلك السنوات تبدد الغضب الذي اندلع في فيلم رآه المتفرجون مُملًا ولا يقول شيئًا، لكن أنطونيوني لم يهتم وصنع جزئين تاليين، الليل والكسوف، وعند عرضه للصحراء الحمراء كانت مكانته قد ترسّخت تمامًا.

اقرأ/ي أيضًا: عاموس جيتاي يسرد اليوم الأخير في حياة رابين

في الصحراء الحمراء، نرى بطلته مونيكا فيتي كامرأة ضعيفة تعاني من أزمة نفسية منذ أصيبت في حادث سيارة كاد أن يقضي عليها، تعزلها عن زوجها وابنها وتعيش حياتها بين الحلم والواقع، أنطونيوني يختار المصنع والآلات والضباب ليرافق أزمة بطلته، فنصبح كمشاهدين معزولين من خلال الضباب، ليلتبس علينا الأمر ونشكك في ذواتنا، وفيما تراه الزوجة من أزمات وما نراه نحن من واقع مُحيط.

بطلة الفيلم هي امرأة تنتمي إلى عصر التكنولوجيا الصناعية، حيث يُحسب كل شيء بالأرقام ويُدرس على خلفية جدواه الماديّة، هي متزوّجة من مهندس مصانع ومنشآت، هو منهمك في عمله بينما هي تغوص في وحدتها وسط عالم لم يعُد كالسابق وطبيعة لم تعد كالطبيعة، ويحدث في مرة أن يصل إليها المدعو زيلر، ويشعر نحوها بانجذاب ويشعر أنه قادر على فهم ما تعانيه، ومن هنا تبدو الأمور في طريقها إلى أن تحل، لكن هذا لا يحدث لأن زيلر لا يملك أن يقدم ما تحتاجه، وبالتالي فلا شيء حدث خلال ساعتي الفيلم تقريبًا.

لم يهتم أنطونيوني بالقضايا الكبيرة، وإنما دقق أكثر في معالجة خواء الإنسان في العصر الحديث

هنا نحن أمام فيلم همّه الرئيسي من خلال شخصيّاته ولاسيما جوليانا، أن يتحدَّث عن العالم الذي نعيشه، عالم يتطور يومًا بعد يوم، ماديًا ولكن توازي تطوّره الروحي مع تطوره المادي قاصر جدًا، هو فيلم يرصد حكاية عالم بات شديد القسوة، ولم يعد في ملاحظة الكون. ومن هنا كانت جوليانا وكأنها مُصابة بمس، ولكن على الجانب الآخر هي الوحيدة التي تأمل بالشفاء لأنها الوحيدة التي تعي حقيقة العالم وتشعر في أعماقها بالقسوة التي يواجهنا بها العالم.

هذا الفيلم جاء مُخلصًا لإيطاليا، في معناه وبنائه، وإن كان جدّد فيه تجديدًا أساسيًا بالنسبة إلى سينماه السابقة، ففي الصحراء الحمراء كان أول فيلم صوره بالألوان، لكن هذه الألوان لا ينبغي أن تخدعنا، لأن الصحراء الحمراء جاءت، في نهاية الأمر، أشبه باستكمال للثلاثية، لتصبح معها رباعية، حيث نجد أنفسنا من جديد أمام خماسي أنطونيوني، الحب المستحيل، والملل، وصعوبة التواصل، والشعور المبهم والقاسي بمرور الزمن، ووصولًا إلى عجز اللغة عن التعبير عما هو داخلي لدى الكائن البشري.

بصريًا يتشكل الديكور من منشآت باردة ويهيمن الغبار محمر اللون والدخان على كل شيء، هذا الجو الخانق له ولبطلته، لقد خلق لنا أيضًا ساعتين كنا عبرهما مُتماهين تمامًا مع بطلته في شكل يُزيد من الشعور بالمُعاناة، لأنها في الأصل معاناتنا نحن.

لقد استطاع الرجل هنا أن يخلق لنفسه أسلوبًا مميزًا وجوه الخاص به، لم يهتم بالقضايا الكبيرة، وإنما دقق أكثر في معالجة خواء الإنسان في العصر الحديث وما بعد الحرب. يتعامل مع الفرد الذي يقع أمام خيارين، إما أن ينعزل عن العالم وإما أن ينخرط به، ولكي يخرج أنطونيوني من عباءة المعالجة من وجهة نظر نسائية، اتجه إلي بريطانيا ليصور معاناة رجل مشهور في أشهر أفلامه: "بلوآب".

اقرأ/ي أيضًا:
حكايات عن عمر الشريف في ذكرى رحيله
وودي ألين: الحياة برمّتها أمرٌ تراجيدي