10-فبراير-2021

كاريكاتير لـ أوزفالدو جوتيريز جوميز/ كوبا

لمْ يكن النقيب حسين يتابع إعطاء إيعازاته للفراغ بعد أن تعبُر الفصيلة السادسة في ساحة العرض والاستعراض كما كان يعتقد الجميع، فبعد الفصيلة السادسة كانت تعبُر الفصيلة السابعة، والفصيلة الثامنة، وربّما التاسعة، وهي الفصائل التي صنعها وشكّلها النقيب حسين بنفسه، ولا أحد يراها غيره.

لا لا،  ليس هذا ضربًا من الجنون، أو مشكلةً نفسيّةً يعانيها النقيب حسين، فهو بالفعل يصنع في كلّ مناوبةٍ عسكريّيْن إلى ثلاثة على الأقلّ، ومن باب ضبط الحساب سنعدّ أنّه يصنع في كلّ مناوبةٍ له عسكريّين اثنين، وإذا كان يناوب ثماني مرّاتٍ في الشهر، فهذا يعني أنّه يصنع في الشهر ستّة عشر عسكريًّا، وإذا ضربنا الرقم باثني عشر يصبح لدينا في العام مئة واثنان وتسعون عسكريًّا يصنعهم النقيب حسين في العام، وإذا قسّمنا الرقم على ثلاثين تتشكّل لدينا ستّ فصائل مشاةٍ، ونصف فصيلةٍ، وإذا ضربنا الرقم بأربعة يصبح لدينا خمس وعشرون جماعة مشاةٍ؛ أي: خمسة وعشرون راميَ رشّاشٍ، وخمسة وعشرون قاذف آربي جي، هذا العدد يكفي لفتح جبهةٍ، أو للذّود عن جبهةٍ، والحديث هنا عن سنةٍ واحدةٍ فقط، وإذا عَددنا أنّ النقيب حسن يمارس هذه الصناعة منذ خمسة أعوامٍ تقريبًا؛ أي: منذ الّلحظة التي فُرز فيها إلى هذه القطعة، فهذا يعني أنّه خلال فترة خدمته صنع ما يقارب الألف عسكريٍّ؛ أي: مئة وعشرين جماعة مشاةٍ، ومن دون الدخول في الحسابات والتفاصيل الأُخرى التي يخوض فيها النقيب حسين، فإنّ هذا العدد يغطّي قطاعًا كاملًا في الجبهة، ولو كان هناك عدل في هذه الحياة العسكريّة لقام وزير الدفاع شخصيًّا بتعليق أرفع وسامٍ عسكريٍّ على صدره عوضًا عن ميداليّة الثامن من آذار التي يغدقون عليهم بها في كلّ عامٍ مع سائر الميداليّات التي لعدم اكتراثه بها لا يعلّقها، ولا يذكر حتّى أسماءها.

لمْ تكن صناعة العسكر التي يقوم بها النقيب حسين تكلّف الدولة شيئًا على الإطلاق، ولا حتّى قرشًا واحدًا، فهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتقاضون الرواتب، كما أنّها لمْ تكن تهدر دقيقةً واحدةً من وقت أحد، فالنقيب حسين كان يصنع العساكر، وهو مناوبٌ أصلًا عوضًا عن الذهاب إلى نادي الضبّاط ليشرب الشاي، ويثرثر مع الضبّاط الصغار العازبين الذين ينامون في القطعة. كان يخرج في دوريّاتٍ نظاميّةٍ، ودوريّاتٍ مباغتةٍ على الحرس، وعند كلّ نقطةٍ كان يتأمّل عنصر الحرس باحثًا فيه عن مخالفةٍ لأنظمة الخدمة كما يبحث جهاز الإيكو عن الحصى في كليتي وحالبي المريض، وأنظمة الخدمة تقضي بأن يكون الحارس مجهّزًا بلباس الميدان الكامل؛ أي: إنّه يجب أن يكون مزوّدًا بالكمامة، ومزودة الطعام الفارغة، وجعبة المخازن، والمطرة، والمعول الفرديّ، والخوذة، وبطبيعة الحال بندقيّة الكلاشنكوف التي يجب أن تكون على كتفه، عادةً لا يلتزم الجنود سوى بالبندقيّة والخوذة؛ أمّا سائر الأشياء، فلا يتقيّد بها أحدٌ إلّا في أثناء مناوبات النقيب حسين؛ لعلمهم بأنّ أيّ نقصٍ في هذه التفاصيل سيتسبّب للمخالف بعقوبةٍ تبلغ ستّة عشر يومًا، وهذه عقوبةٌ تُضاف إلى خدمة العسكريّ، وبسبب التزام الجنود بهذه البنود في أثناء مناوباته، فقد كان النقيب حسين يبحث عن مخالفاتٍ أُخرى تتعلّق بالهندام؛ فإذا كان الحذاء غير ملمّعٍ، أو القميص غير مُزرّرٍ، أو كان ذقن الحارس غير حليقٍ بالشكل المطلوب، كان هذا كافيًا لكي يُضاف إلى خدمته ستّة عشر يومًا، وبسبب هذا فقد أخذ الجنود يحسبون الحساب حين يكون النقيب حسين مناوبًا، فيرتدون لباس الميدان الكامل، ويلمّعون، ويزرّرون، ويحلقون، ويبقون على أُهْبة الاستعداد أربعًا وعشرين ساعة، حتّى يسلّم النقيب حسين مهامه، ولهذا السبب فقد أخذ النقيب حسين يجد صعوبةً في العثور على سببٍ للعقوبة، ما جعله يختلقها، ففي إحدى المرّات اقترب من الجنديّ إلى مسافةٍ ملاصقةٍ، وداس على رجله، فترك حذاؤه أثرًا فوق حذاء الجنديّ الملمّع، وبعد ثوانٍ انتبه النقيب حسين إلى أنّ حذاء الجنديّ غير ملمّعٍ، ولكنّه وهو يحرّر العقوبة شعر بحَرجٍ كبير.

ومرّةً شاهد فتحة البنطال لدى الحارس فاغرةً فاها، فأدرك أنّ الحارس حين حضوره كان يقضي حاجته، ولمْ يُسعفه الوقت ليُزرّر البنطال، وألقى عليه محاضرةً في موضوع أُهْبة الاستعداد، وكيف أنّ على الحارس قبْل استلام نوبة الحراسة أنْ يقضي حاجته الكبيرة والصغيرة، ولا يترك المجال لأيّة واحدةٍ منهما أن تداهمه في أثناء نوبة الحراسة؛ لأنّ العدوّ إذا قرّر الهجوم على المعسكر لن ينتظرك حتّى تقضي حاجتك، وأكّد النقيب حسين للحارس: "أنّ قضاء الحاجة في أثناء نوبة الحراسة هو بمنزلة الخيانة العظمى، فإذا حصل اختراقٌ، لا سمح الله، من هذه النقطة، ماذا ستقول مُسوّغًا فعلتك في المحكمة الميدانيّة؟ هل ستقول لهم: كنت أقضي حاجتي؟ هل تعرف ماذا سيفعلون بك إنْ قلت لهم ذلك؟".

سأل النقيب حسين الحارس، وانتظر الإجابة، ولكنّ الحارس لمْ يعرف بمَ يردّ عن سؤاله، فأردف النقيب حسين: "سأقول لك ما الذي سيفعلونه بك: سيشدّون وثاقك، ويوقفونك قرب عَمود الإعدام، ويصلونك برشقةٍ من الرصاص يكون أزيزها آخر شيءٍ تسمعه في حياتك". استرسل النقيب حسين في محاضرته إلى درجة أنّ الحارس تمنّى لو أنّه بال في ثيابه، ولم يُقْدم على تلك الخطوة خلف تلك الشجرة، وكان النقيب حسين يشعر بثقل وطأته على الحارس، بلْ إنّه في بعض الّلحظات شعر بالشفقة عليه، وتعاطف معه، ولكنّ المحاضرة لمْ يكن منها بُدٌّ لكي يُسوّغ عقوبة الستّة عشر يومًا، التي من دونها ربّما ينقص ستّة عشر يومًا من السنتين ونصف مجموع العقوبات التي يصنع بها النقيب حسين عسكريًّا جديدًا. أجل، هكذا كان النقيب يصنع العساكر؛ إذْ يضيف إلى خدمة كلٍّ منهم ستّة عشر يومًا، وإذا لزم أكثر من ذلك، وقبْل أن تنتهي مناوبته بساعتين يجمع عدد أيّام العقوبات التي فرضها على العساكر اليوم، فإنْ بلغت ألفًا وثمانمئة وخمسة وعشرين يومًا؛ أي: خمس سنوات، يتنفّس مرتاحًا، ويعزف في رأسه النشيد الوطنيّ بإيقاعات المارشات العسكريّة، لا بآلات الكمان الخاصّة بفرقة الإذاعة الباهتة؛ أمّا إذا لم يبلغ الرقم ذلك، فإنّه يقفز مسرعًا، ويخرج هائمًا على وجهه في المعسكر، ويكمل عدد أيّام العقوبات حتّى يصبح لديه عسكريّان اثنان، وهنا لا يهمّه ما هي المُسوّغات لتلك العقوبات، فهو يوقف أيّ جنديٍّ يصادفه، ويسجّل اسْمه، ويتابع من دون أن يعرف العسكريّ لماذا فعل النقيب حسين ذلك، ثمّ يتوجّه النقيب إلى غرفة الضابط المناوب، ويحرّر العقوبات المطلوبة لسدّ الثغرة في العسكريّيْن الجديدَيْن، ويضع المُسوّغات التي يريد من دون أن يسأله أحدٌ فيما بعد.

يمكن القول: إنّ من في المعسكر جميعهم كانوا يكرهون النقيب حسين، الجنود للسبب الذي ذكرناه، وصفّ الضبّاط والضبّاط لأسبابٍ أُخرى تتعلّق بحضور النقيب حسين الذي يبعث على الملل، واعتداده الزائد بنفسه، وتباهيه المبالغ به بنزاهته، ما قد يوحي بأنّ الجميع عداه فاسدون، الشخص الوحيد الذي كان يحبّه هو كبير المتملّقين، المساعد عمران، رئيس الديوان الذي يضع جدول الخدمة، فبسبب الهواية الشاذّة للنقيب حسين بصناعة العساكر، أصبح هناك طلبٌ كبيرٌ عليه، فقد أخذ العساكر يتوافدون عليه زرافاتٍ زرافاتٍ، راجين ألّا يضع أسماءهم في جدول الخدمة في أثناء مناوبة النقيب حسين، ولأنّ الجميع يعرفون بأنّ الدخول إلى الديوان حيث مكتب المساعد عمران خالي اليدين بمنزلة عدم الدخول، فقد كان كلٌّ منهم يغدق بما تسنّى له من الهدايا؛ فذلك يأتيه بتنكة دبسٍ، والآخر بتنكة زيتٍ، وغيره ببيدون نبيذٍ، وبعضهم يقدّم إليه الهديّة نقدًا، ويقوم هو بناءً على قيمة الهديّة بوضْع أسمائهم في جدول الخدمة في أيّامٍ أُخرى غير أيّام مناوبات النقيب حسين، وينفض يده ممّن قدّم هديّةً متواضعةً، كأنّه لمْ يقدّم شيئًا، وإذا احتجَّ أحدهم يقول له المساعد عمران: "يا أخي لا أستطيع أنْ أعفيكم جميعًا، ومن غير المعقول أن أضع اسْم الذي جاء بتنكة زيتٍ في جدول الخدمة، وأنت الذي جئت بسلّة بيضٍ أعفيك من ذلك". وكان كلامه مقنعًا، ولذلك فقد تحوّلت الهدايا جميعها إلى مبالغ نقديّةٍ، ولهذا فقد كان المساعد عمران عندما يصادف النقيب حسين يؤدّي له تحيّةً عسكريّةً بحماسٍ يغيب عن تحيّات المساعدين عادةً، الذين يكتفون برمي يدهم إلى جبهتم بسرعةٍ، كأنّهم يفعلون ذلك من باب رفع العتب، ثمّ ينحني، ويصافح النقيب حسين بكلتا يديه، وكان النقيب يشعر بالسعادة لذلك، على الرغم من أنّه كان يتمنّى أن تكون المصافحة من قِبَل العميد أحمد ثناءً على مساهمته في صناعة العسكر، فقد كان يعمل بزخم شعبتَيْ تجنيدٍ إذا لم نقل أكثر، وتابع النقيب حسين العمل على خطّ الإنتاج هذا، وكان كلّما اكتمل لديه عسكريٌّ يدخل إلى نادي الضبّاط لتناول وجبته، ويرفع يده، وهو يتجاوز الباب، ويعلن متفاخرًا: "اليوم صنعت عسكريّين"، ولكنّ النقيب حسين (صانع العساكر) لمْ يكن يعرف أنّ عساكره الذين كان يصنعهم كلّهم كان الرائد منعم (بائع الإجازات) يبدّدهم هباءً منثورًا؛ إذْ إنّ الرائد منعم اشتهر ببيع الإجازات، وإذا كان النقيب حسين يكتفي بعقوبات الستّة عشر يومًا، فإنّ الرائد منعم كان لا يتوانى عن منْح العسكريّ إجازةً تبلغ الشهر أحيانًا، وإضافةً إلى ذلك يقوم برفع أسمائهم في قائمة الحضور، وهُم غائبون، وبهذا الشكل، فإذا كان النقيب حسين يصنع عسكريًّا في اليوم، فإنّ الرائد منعم يبدّد عشرة عساكر في اليوم.

وبطبيعة الحال فإنّ النقيب حسين لمْ يكن وحْده بين ضبّاط الجيش (صانع عساكر)، وكذلك الرائد منعم لمْ يكن الوحيد (بائع إجازات)، فهناك عددٌ كبيرٌ من أمثالهما، عددٌ يكفي لصناعة عشرات الهزائم.

 

  • من كتاب "دفتر الإجباري" الصادر مؤخرًا عن دار ممدوح عدوان

 

اقرأ/ي أيضًا:

الوباء سرّي الصغير

بول شاوول: حديقة الأمس