21-يناير-2019

سجادة كردية

وددته أن يكمل نقاشه معي لتكتمل أضلاع المشهد في ذهني، وتكتمل رتوش حوار مسرحيةٍ بدأت في مخيلتي منذ بدأت أقلّب صور المدينة التي وصلت قبل قليل، ههنا على الشاشة الزرقاء قاتلتنا نحن جميعا. لن يفكّ رموز النص هذا سوى معاصرو مدينة ادوماع الصغيرة، نحن ثلة من المتسكعين في حينٍ مضى... فاعذروا تشتتي.

بالكاد عرفت شوارع المدينة، مدينتي الصغيرة، والكاميرا تقلب شوارعها يمينًا ويسارًا في ظلمة انقطاع التيار الكهربائي الأرعن الذي لم يدخل بيوتها منذ بضعة أيام وقليلًا ما يزورها وينيرها. بالكاد عرفت بيوتها الطينية المهترئة، بالكاد نفضت غبارًا سميكًا غطى جزءًا كبيرًا من الذاكرة.

قال المسن العجوز الجالس أمام عتبة باب منزله في طرف المدينة المقابل لمركز التجنيد: "لم نعد نحتاج لنور الكهرباء، هاك ما ينير حياتنا أكثر". لم أفهم مقصد الخال العجوز، فابتسم مرتشفًا كأس الشاي وهو يعيد ترتيب الشال الأحمر على رأسه، والتقط الدحل المتدحرج بين قدميه وأعاده لأطفال الحي الذين يلعبون. "هؤلاء ينيرون قلوبنا، ويضيئون شوراعنا وبيوتنا".

رقصت فتاة الصغيرة أمام جدتها، وتحلت ببعض من الإكسسوار من خزينة أمها، وكعب حذائها يعلو خطاب الديموقراطية المزركش بالصفار. رقصت ثلاث رقصات أمام جدتها العجوز، فرفعت من صوت الراديو المركون في شباك الغرفة المنخفض، جمّلت العجوز من هبريتها(1) وأخفت دموعها مصفقة لحفيدتها.

عدت إلى المشاهد المصورة على الشاشة الزرقاء، أين أنا؟ وما هذا الذي أرى، أي مبانٍ قد زُرعت مكان المساحات الفارغة التي عهدنا أن نلعب فيها في طفولتنا؟ وما هذا الطلاء الغريب اللون الذي لم نعهده، ثم منذ متى ونحن نطلي جدران بيوتنا، إلا في كاس العالم بأعلام منتخبات لا نعرف لمَ نُشجها؟ لا ألتمس العذر هنا... أعرف لمَ كنّا نشجعها، فالبحث عن انتصار أخذنا إلى أقاصي الأرض وأمريكيتها اللاتينية.

ظل صديقي صامتًا غير آبه بما أقول، ولم يرد أن يجيبني على تساؤلاتي، كأن به يعرف ما في بالي وتفاصيل المشهد متعرية أمامه. متعمدًا ألا يكمل المشهد هذا.

"إلامَ تشتاق؟" سالته مُتمسحًا محاولًا التهرب من اشتياقي وفرض دكتاتوريتي في النسيان عليه. كان حريٌ به أن يتهمني بالدكتاتورية إلا أنه فضل الصمت على أن يكمل الحوار العقيم. لكن قبل أن يتلاشى صوته وكلماته اتهمني بالكذب ورحل. لمَ نجبر من نحب على النسيان ونُصّر على حرمانهم من نعمة الذكريات؟

ربما أكذب... أُخفي اشتياقي، بل أنا متقبل للهزيمة والنسيان لست أنا فقط من نَسي بل صَدقَ درويش ونُسينا نحن أيضًا وما من أحد يتذكرنا وكأننا لم نكن، وما من أحد يريد أن يتذكرنا، بتنا في هامش بوست فيسبوكي لا أكثر حتى كتب التاريخ تخجل من احتوائنا.

فضلت إغلاق الصور المبعثرة أمامي، واسترجاع ما أتيح لي من صور منسية في أطراف ذاكرةٍ همشتها لسنوات، ذكّرني بها صديقي الذي استمر صمته: كأس الشاي وفنجان القهوة الذي لم يكن يهدأ من أيدينا وأصابعنا، لا نكتفي بواحدة، فعلبة السجائر يجب أن تنتهي مرتين قبل الذهاب للفراش فجرًا. وصالون الخال أبو فخرو يكتظ بنا رغم عدم رغبتنا في الجلوس على كرسيه، ما من أحد أراد أن يزيل الشعر من فروة رأسه أو من وجهه، كنا نريد سماع صوت مقص الخال في خلفية حديثه عن الموسيقى والشِعر، ينكش لنا أغنية ما من طرف ذاكرته وقصة ما مع صديق قديم. لا أذكر أسماء من كانوا يرتادون الصالون والركن المجاور، كما لا أذكر أسمي الآن، كل ما أذكره هو صوت الموسيقى الفلكلورية المرتفع وسط انقطاع الكهرباء وصياح شپال من ركنه السياسي الذي كان ولا زال يُشبّهُ السياسة بالبطاطا. "أليس الحديث عن هذه الخضروات أفضل بكثير من أحاديثكم السياسية الغبية؟". كان شپال يقول ذلك في خضم حديثه هو في السياسة.

لم تُمحَ هذه الذاكرة، وقد لا تُمحى أبدًا يا صديقي، إلا اني لا أجد لها مكانًا سوى زاوية مغبرة في الذاكرة، وما من مكان يعيدنا إليه. المدينة التي تلاشت من تحت أقدامنا وصرخت بنا مبعدةً إيانا خارج أسوارها لم تعد موجودة، وما من أذرعة مفتوحة لنا. حتى المُخبر جليس حاراتها لم يعد يحتاج الجلوس فيها ليراقبنا، ربما صار عمدة الآن، مدرسة الطفولة التي نتذكرها أنت وأنا لا أجد مكانًا لها في ذاكرتي تهدمت، والمدرّسون الممتعظون من استيقاظم الباكر نائمون الآن حتى الضحى دون أن يزعجهم أحد. جارتنا المشاكسة، ما عادت تصرخ بأولاد الحي، وتوقفت عن مناداة زوجها ليشاركها صحن البرغل على العذاء. لم يعد زوجها يزور فراشها، فالرصاصة التي استقرت تحت كبده لفت جسده بغطاء أصفر أسمته شهيدًا، وطمرته تحت كنف شرمولا(2). الصالون بات خاويًا وركن شبال معتم تمامًا. قبة السماء المزركشة كثُريا في أمسيات كنا نسبح بقطرات الندى على عشب ادوماع، باتت مثقوبة بطلقات الابتهاج التي تقنص الأطفال.

تلاشت المدينة، تلاشت بساطتها، وَحلها وغبارها، وأصوات مجانينها، إنها ميتة. كل ما فيها بات مقلوبًا حتى اسمها فضعها أمام المرآة لتقرأها كما اعتد يومًا.


هوامش

(1) هبرية: غطاء الرأس تضعه النسوة الكرد.
(2) شرمولا: اسم تلة في المدينة المعنية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كأنّ شيئًا ما لن يحدثَ بعد الغياب

اقتفاء أثر الصدى