03-ديسمبر-2019

المترجم الفلسطيني صالح علماني (1949 - 2019)

ألترا صوت - فريق التحرير

تمر اليوم الذكرى السنوية الأولى لرحيل المترجم الفلسطيني صالح علماني (1949 - 2019)، الذي غادر عالمنا في إسبانيا التي انتقل إليها بعد خروجه من سوريا. رحل علماني بعد مسيرة ثقافية حافلة ترجم خلالها ما يزيد على المائة كتاب عن اللغة الإسبانية، ومن بلدانها المتعددة.

كانت مسيرة علماني شاقة للغاية، لكنها تصلح لتكون صورة للمثقف العصامي الذي عانى في بداياته وخاض في دروب الحياة الصعبة، دون أن يضعف عزمه وإصراره، فجرّب الكتابة وحين لم يعجبه ما كتبه قام بتمزيق النص، ثم انتقل إلى الترجمة التي وجد فيها ذاته، وباتت عبارته التي يرددها دائمًا شعاره في الحياة: "أن تكون مترجمًا جيدًا أفضل من أن تكون روائيًا سيئًا"، وربما كان من حسن حظ قرّاء اللغة العربية أن يكتشف الرجل فشله في الكتابة، لكي يحصلوا على روائع اللغة الإسبانية عن طريقه.

بإعجاب كبير وصف الشاعر محمود درويش المترجمَ صالح علماني: "هذا الرجل ثروة وطنية يجب تأميمها"

بدأت قصة هذا الفلسطيني في "مخيم العائدين" في مدينة حمص السورية. المخيم يسميه سكانه بـ"الثكنة"، لأنه كان يومًا ما معسكرًا من معسكرات الجيش الفرنسي زمن الاحتلال. أما بيوت هذا المخيم فليست سوى إسطبلات لخيول الجيش. إحدى هذه الإسطبلات تحوّلت إلى غرفة لعائلة علماني، كما هو حال فلسطينيي المخيم الآخرين في فترة اللجوء الأولى عقب النكبة.

اقرأ/ي أيضًا: مارثيلا سيرانو.. التحديق بعيون النساء كلهن

ولد عام 1949، تزامنت ولادته مع أسوأ شتاء في تاريخ البلاد، وقد بدا لأهله أنه من المستحيل لذلك الطفل أن يعيش بعدما وصل وضعه إلى حدود الموت، لكنه تحدى وعاش. هذا التحدي هو ما سيتحوّل إلى حرب حقيقية في الترجمة.

حين بدأ العمل الفدائي الفلسطيني المسلح عام 1965، بدأ يوزع المناشير الثورية مع أبناء المخيم، وبعد عام 1967 دخل إلى العمل السياسي في منظمة التحرير، دون أن يتوقف عن القراءة. القراءات الأولى التي شكلته هي روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وترجمات منير البلعلبكي لـ: الشيخ والبحر، البؤساء، أوليفر تويست.

كانت الكتب تنسينه الطعام، يغرق بين صفحاتها فينسى الغداء والعشاء، ولا يذكر أنه بحاجة إلى الطعام إلا حين ينتهي من قراءته. كأنّ القراءة طعامه.

بعد المرحلة الثانوية سافر إلى إسبانيا لدراسة الطب، وهناك أصدر مع بعض الشباب الفلسطينيين نشرة حملت اسم "الوطن"، وكانت نشرة سياسية ثقافية، وبسببها ترك الطب بعد سنتين، ليدخل إلى كلية الصحافة حيث سيدرس فيها لمدة سنة، ومن ثم ويغادرها.

قصة دخوله إلى عالم الترجمة بدأت في جلسة ثقافية في إحدى مقاهي برشلونة، حيث كان يتحدّث مع مثقفين إسبان عن مكانة الكاتب الشهيد غسان كنفاني وأهميته، وقتها حدّثه أحد هؤلاء الأصدقاء عن رواية "مائة عام من العزلة" لماركيز، وحين أهداه إياها قرأها ثلاث مرات متتالية، من هذه الرواية بدأ قصة حبه مع مدرسة "الواقعية السحرية" التي تقوم على خلط الأحلام بالسرد الواقعي. لم يكن علماني يعرف أن الرواية التي حصل عليها بالصدفة ستغيّر حياته، وستجعله يقرأ كل ما يقع تحت يده من أدب أمريكا اللاتينية، ومن ثم ستتعمّق علاقته مع ثقافة ولغة هذه القارة أكثر وأكثر بعد زيارته اللاحقة إلى كوبا.

بعد عودته إلى دمشق، ترجم "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، فلاقت استحسانًا نقديًا شجعه على الاستمرار في هذا الدرب، هكذا راح يترجم لماركيز ويوسا وخوان رولفو وماريو بنديتي وبابلو نيرودا ونيكولاس غيين.. إلخ.

في فيلم وثائقي عنه، عرضته قناة الجزيرة منذ سنوات، روى الشاعر أحمد دحبور حكاية عن صدور مختارات إسبانية للشاعر رفائيل ألبرتي، الحائز على نوبل عام 1977، وقتها طلب محمود درويش ترجمة البعض منها لمجلة "شؤون فلسطينية" التي كان يرأس تحريرها، فقام دحبور بتكليف علماني الذي أنجز الترجمة بسرعة وأرسلها، وما كان من درويش إلا أن اتصل بدحبور يسأله عن هذا المترجم المبدع، ويصفه بإعجاب كبير: "هذا الرجل ثروة وطنية يجب تأميمها".

إنجازه الحقيقيّ يكمن في تقديمه أدب أمريكا اللاتينية المعاصر بصورة منهجية غير مسبوقة، فقد عمل كما لو أنه مؤسسة كاملة هدفها نقل تراث وأدب كاملين، فعل ذلك وحده، ولولاه لما امتلكنا هذه الإطلالة الواسعة على الأدب المكتوب بالإسبانية. فعلت ترجماته في الثقافة العربية ما لا يفعله إنتاج دزينة من الكتاب، لأنه يملك إخلاص الناسك يجعله لا يجد متعةً إلا في عمله.

طريقته في الترجمة في غاية البساطة، وهي كما سبق وشرحها في حوار سابق: "أترجم الرواية بعد أن أقرأها وأحبها، بعد قراءة الاستمتاع الأولى ترافقني الرواية، أقرأ وأترجم، وخلال ترجمة الكتاب أحمله معي أينما ذهبت، وأعيد قراءة فصوله مراتٍ ومراتٍ، وإذا حدث وضاع مزاجي مع الكتاب أتوقف عن العمل، لأنني لا أستطيع مواصلة ترجمتي دون رغبة وحب".

ماريو بارغاس يوسا عن صالح علماني: "بفضله صار عدد كبير منا، نحن الكتاب الأمريكيين اللاتينيين، مقروءًا ومعروفًا في الشرق"

في عام 2015، كرّمته "مدرسة طليطلة للمترجمين" العريقة إثر انتقاله للعيش في إسبانيا، وقد قرئت خلال التكريم رسائل عديدة، أبرزها رسالة أرسلها الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الحائز على نوبل 2010، إذ قال: "أسهم صالح علماني بعمله كمترجم في نشر الأدب الأمريكي اللاتيني في العالم العربي، وبفضله صار عدد كبير منا، نحن الكتاب الأمريكيين اللاتينيين، مقروءًا ومعروفًا في الشرق".

اقرأ/ي أيضًا: الترجمة وخلق القيمة في عالم الأدب

في تجربة علماني ما يؤكد أهمية حدس المترجم، عبر وصوله إلى مناطق خفية ومضمرة، يعيد إنتاجها بروح تناسب اللغة العربية، فالمترجم، حسب تجربته، ليس مجرد ناقل أمين، أي محض رجل قاموس وحسب، لكن المترجم مؤلف آخر قادر على الولوج إلى أسرار النصوص، والتغلعل فيها، سبيله إلى ذلك ثقافة ورؤيا أبعد من حرفية إتقان اللغتين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار مع 3 مترجمين.. في ضباب الترجمة ويأسها

الترجمة والأدب.. ممارسة تأويلية وإبداعية