30-سبتمبر-2019

يستلهم آبي طريقة ترامب في السياسات الخارجية (Getty)

يسلط المقال أدناه، المترجم عن صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، الضوء على الإلهام المتبادل بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، ما ينعكس في توترات تعرفها طوكيو بخصوص العلاقة مع مستعمرتها السابقة، كوريا الجنوبية.


لعل من يُنصِت اليوم إلى المحلّلين وكاتبي الآراء والإعلام الأمريكي تحديدًا يعرف تمام المعرفة بولع ترامب بمن بقي لهذا العالم من رموز للدكتاتورية مثل بوتين وكيم جونغ أون، غافلًا عمّن يكون على أرض الواقع الرفيق الحقيقي لدرب ترامب الذي يأخذنا إلى طوكيو، عاصمة الشمس المشرقة حيث نصّب رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي نفسه مريدًا مخلصًا للرؤية لـ"الترامبية" العالمية، وخصوصًا طريقته الفجة في استخدام ورقة التجارة سلاحًا.

لا عجب أن آبي اختار اقتباس بعض الصفحات من دفتر خطط ترامب التجارية. فقد بدا الودّ جليًا على الزعيمين خلال لقائاتهما الطويلة والمتكرّرة

لا أدلّ على ذلك ربما مما حدث في شهر آب/أغسطس الماضي حينما أعلن آبي عن مزيدٍ من القيود التجارية الصارمة على كوريا الجنوبية مبرهنًا بعباراتٍ عملية أن بلده مستعدٌ لحماية مصالحه القومية بأي ثمن وقبل كل شيء، حتى لو اقتضى ذلك زعزعة العلاقات الثنائية مع جيرانها. سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، لم تستغرق طويلًا في الرد بتدابير مشابهة تمثّلت في إنهاء اتفاقية مشاركة معلوماتٍ استخباراتية صانها الطرفان لفترةٍ طويلة، ليستفحل مشهد الأزمة التي اندلعت بين البلدين في الأشهر الأخيرة.

اقرأ/ي أيضًا: اليابان.. فردوس ترامب الذي يحتضر

ولا يخفى على المتابع أن قرار رئيس الوزراء الياباني يأتي اقتداءً بسياسات ترامب الذي لم يتحرّج من رعاية مصالح بلاده دون أن يلقي بالًا للعلاقات التقليدية مع أصدقائه وشركائه. وبرز ذلك بالدرجة الأولى في توظيفه التجارة ورقةً في مسرح السياسة الخارجية، حتى في ملفاتٍ بعيدةٍ عن الاقتصاد. فقد لجأ ترامب، مثلًا، إلى التلويح بتهديداتٍ تجارية لإجبار المكسيك على ضبط موجات الهجرة.

يظهر، على الأقل على السطح، أن قرار آبي في فرض هذه القيود التجارية هو ردٌّ على ادعاءات كوريا التي تأتي في سياق معركةٍ تاريخيةٍ دارت طويلًا. فالكوريين يطالبون اليابان بالاعتذار اعتذارًا صادقًا وتقديم التعويضات على الفظائع التي اقترِفَت أيام الحرب، وهو ما ترى اليابان أنها قد أدّته على النحو الكافي.

ترى سيول، ومعها عددٌ من الخبراء، أن غاية آبي من هذه القيود هو الانتقام من قرارٍ توصلت إليه المحاكم الكورية العام الفائت طالبت فيه الشركات اليابانية بتعويض الكوريين الجنوبيين الذين أُجبِروا على العمل لصالحها خلال الاستعمار الياباني لشبه الجزيرة الكورية بين عامي 1910 و1945. وفي المقابل فإن موقف اليابان الرسمي هو أن ذلك قد حدث بالفعل عبر اتفاقيةٍ عُقِدت عام 1965 تم بموجبها تطبيع العلاقات بين البلدين، كما ألزمت تلك الاتفاقية طوكيو بدفع مبلغ 800 مليون دولار على شكل قروضٍ ومنح لحكومة سيول تعويضًا منها للخسائر التي تكبّدتها كوريا خلال الحقبة الاستعمارية.

لا تقتصر الخلافات التاريخية بين البيت الياباني والبيت الكوري على هذا الصعيد بلا شك، ولكن المؤكّد هو أن هذه الخلافات قد أخذت بالعلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها في الفترة الأخيرة في ظلّ الحمى والرسائل القومية الشرسة التي تهيمن على كلٍّ من طوكيو وسيول. ولكن صراعات الماضي، أو بالأحرى حول الماضي، لا تحكي القصة كاملةً، فقرارات آبي تشير بصورةٍ متزايدة إلى أنه يستتر بالجدل التاريخي لخدمة أجندة اليابان الاقتصادية. وقد حصدت الشركات اليابانية ثمار التذرّع بهذا الجدل وهي التي تتنافس بصورةٍ مباشرةٍ مع الشركات الكورية في عديد الحقول أهمها ربما السيارات والإلكترونيات، حيث إن التدابير الأخيرة قد تركت الشركات الكورية في وضعٍ لا يُحسَد عليه محاولةً بكل ما أوتيت تأمين موادٍ رئيسية أصبح استيرادها الآن من اليابان أمرًا غير ممكن.

من المرجّح أن تؤدّي قرارات اليابان وما تبعها من ردود فعلٍ من سيول إلى زعزعة متانة سلاسل الطلب الدولي، وربما أيضًا تهدّد التحالف الثلاثي بين واشنطن وطوكيو وسيول في منطقةٍ تمرّ بظروفٍ زمنيةٍ فارقة في ظلّ استمرار كوريا الشمالية بالعمل على برنامجها النووي، وصعود الصين المضطرد إلى الساحة العالمية، هذا غير ما سيفضي إليه ذلك من عواقب غير محمودة على نظام التجارة العالمي الذي يعاني الويلات في ظلّ الحرب التجارية المستعرة بين الصين والولايات المتحدة.

بكل الأحوال يبدو أن سيول قد تفطّنت إلى الدوافع الحقيقية وراء قرارات اليابان، فقد أدان الرئيس مون جي إن ما أسماه "النوايا الواضحة للهجوم وإلحاق الضرر باقتصادنا من خلال إعاقة نموه المستقبلي". وتعهّد بأن لا تقف بلاده مكتوفة الأيدي، وتجلّى ذلك بالفعل في قرار إدارة مون بنقض اتفاقية مشاركة المعلومات الاستخبارية مع طوكيو، ولو أن تبعات ذلك قد تكون في النهاية أنكى على كوريا الجنوبية نفسها منها على طوكيو نظرًا لأنها أقرب من كوريا الشمالية.

على الصعيد التجاري، لا تملك كوريا الكثير من الخيارات المبشّرة في ظل الاتكائية الكبيرة للشركات الكورية على المصدّرين اليابانيين في سبيل تأمين المواد والمعدات الرئيسية. بل تشير التوقعات إلى أن النمو الاقتصادي في كوريا هذا العام سيكون الأبطأ منذ عقدٍ كامل، ويعود ذلك، في جزءٍ منه، إلى قرارات طوكيو الأخيرة.

اقرأ/ي أيضًا: ترامب لن يجعل أمريكا "عظيمة" مرة أُخرى!

لا عجب في النهاية أن آبي اختار اقتباس بعض الصفحات من دفتر خطط ترامب التجارية. فقد بدا الودّ جليًا على الزعيمين خلال لقائاتهما الطويلة والمتكرّرة. فقد رأى العالم العناق الحار بين آبي وترامب في زيارة الأخير إلى طوكيو في شهر أيار/مايو الماضي بمناسبة تنصيب إمبراطور اليابان الجديد، قبل أن يلعبا معًا بعض جولات الجولف، ويجلسان معًا على رحاب مائدة السوشي، وأيضًا يشاهدا معًا بعض مباريات السومو، كما أنهما تبادلا قبعات "فلنجعل أمريكا عظيمةً من جديد". حيث يبقى آبي أحد القادة الغربيين القلائل الذين يستلطفهم ترامب.

لعل من يُنصِت اليوم إلى المحلّلين وكاتبي الآراء والإعلام الأمريكي تحديدًا يعرف تمام المعرفة بولع ترامب بمن بقي لهذا العالم من رموز للدكتاتورية مثل بوتين وكيم جونغ أون، غافلًا رفيقه الملهم في طوكيو

مما يثير الاهتمام هو أن قرارات آبي الأخيرة ضد سيول قد أثارت حنق الكثير من الكورين الجنوبيين، إلا أنها رفعت أسهمه السياسية المحلية، على نفس شاكلة ترامب الذي لا يمتنع عن معاملة حلفاء الولايات المتحدة بشيءٍ من القسوة تماشيًا مع سياسة "أمريكا أولًا" ويكسب في هذا شعبيةً أكبر بين قاعدته المحلية. يظهر أن طرائق ترامب قد أثبتت أنها تحظى بشعبيةٍ متزايدة، فلمّا تورّعت الدول في فترة ما بعد الحرب عن استخدام ورقة التجارة كسلاح، تشهد الساحة العالمية اليوم مزيدًا من القادة الذين يسيرون على خطى الرئيس الأمريكي في ذلك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 أمريكا أولًا.. ما أهم ملامح إستراتيجية الأمن القومي الجديدة لإدارة ترامب؟