05-فبراير-2016

زوجة شكري بلعيد ترفع شارة النصر أيام بعد اغتياله (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

"قم يا حسين العلمْ

إنّ اللّحيّ التي استوطنت تاريخ كل البلاطات

قد أرسلت تطلبكْ جسدًا أو كفنْ

قم واحتمي بدمي استظلّ بكفّي

ودمع الملايين والزفرة العاشقة"

حينما رثى شكري بلعيد الشهيد المغدور رفيق حسين مروة في قصيدته "قم يا حسين العلم"، والذي استشهد ببيروت في 17 شباط/فبراير 1987، ربّما لو يدر بخلده  للحظة واحدة أن ذات يوم من أيّام شباط/فبراير 2013  ستنتهي حياته إلى الأبد بأيادي الغدر كما حدث مع رفيقه حسين مرّوة.

لا يزال حضور شكري بلعيد طاغيًا على المشهد السياسي، صوره وخطاباته حاضرة لا تنسى أبدًا 

بعد اغتيال شكري تتبادر إلى الذهن أسئلة يعجز العقل عن الإجابة عنها: "هل قدر اليساريين والتنويريين في العالم الإسلامي أن يرحلوا دون سابق ميعاد؟ وهل قدر الوطنيين أن يذهبوا إلى الموت بأيادي من يدافعون عنهم: الفقراء، المكبلون بثقافة الموت والقتل..؟ يعيد التاريخ نفسه مع حسين مروة وشكري بلعيد في سردية مؤلمة لحوادث القتل باسم الإنتصار للربّ والدين ضدّ الكافرين.  

لم يستطع الجميع نسيان شخصية شكري بلعيد المتعددة والمتفردة، شكري بلعيد الإنسان، المناضل، الشاعر واليساري المفتخر بشيوعيته، تفاصيله تحيلك على شخصية روائية أو سينمائية استطاعت أن تحشد السياسة مع الشعر والحبّ،  قبعته اليسارية، شامته، وسامته الكاريزمتية العالية وشاربه العظيم وفصاحته البليغة التي استطاعت أن توجه الأنظار إليه من المحبين والكارهين أيضًا، من الرفاق والأعداء. سيرة شكري بلعيد سيرة رجل بحالات كثيرة لا يمكن سردها دفعة واحدة.

قبل ثلاث سنوات، وجه الرصاص نحو جسد شكري بلعيد في حادثة لا تزال غامضة ووجهت فيها أصابع الاتهام نحو التيّار السلفي المتشدد بتونس، وتأتي حادثة اغتياله بعد أن كُفرّ الشهيد على صفحات التواصل الاجتماعي، أهدر دمه افتراضيًا من طرف بعض المتشددين، وحققوا تهديدهم على أرض الواقع في 6 شباط/فبراير 2013.

حزن الشعب التونسي على شكري بلعيد وخرج قرابة المليون شخص لتشييعه نحو مثواه الأخير، حزنت تونس ولم تحزن لوحدها على شهيدها المغدور بل شاركتها الحزن بغداد، مسقط قلب الشهيد، أين هاجر وأكمل دراسته هناك في تسعينيات العراق المحاصر، فترة من عمره قضاها بلعيد ينهل من جامعات بلاد الرافدين. هو تونسي بقلب عراقي، كانت أغاني ناظم الغزالي رفيقته حتى بعد عودته إلى تونس، "حيّاك بابا حيّاك"، أغنية غناها شكري ذات مرّة في برنامج تلفزي فباح صوته بعشقه المتدفق للعراق. سقط شكري بلعيد كما سقطت بغداد ذات مرّة.

لم يكن موت شكري بلعيد حادثًا منفردًا أو معزولًا عن ما تعيشه تونس من تحولات بعد ثورتها، بل كان منعرجًا خطيرًا في تاريخ السياسة التونسية

شكري بلعيد، قتل بالرصاص الغادر من من دافع عن حقهم في الحرية أمام المحاكم الجائرة في العهد السابق، أهداهم الحرية فأهدوه الموت. وقبل أن يرحل إلى الأبد ترك الشهيد وصية حذر فيها الجميع: "حذاري من الإنجرار إلى مربع العنف فذلك يخدم الرجعية".

نال الرصاص من شكري بلعيد واقتاده إلى "مقبرة الجلاز" بالعاصمة لينام بجانب شهداء تونس أبناء الحركة الوطنية، ورغم موته لا يزال حضوره طاغيًا على المشهد السياسي، صوره وخطاباته حاضرة لا تنسى أبدًا ويستحضرها التونسي في مشهد الإرهاب المتكرر بالبلد.

لم يكن موت شكري بلعيد حادثًا منفردًا أو معزولًا عن ما تعيشه تونس من تحولات اجتماعية وسياسية بعد ثورتها، بل كان منعرجًا خطيرًا في تاريخ السياسة التونسية، إذ بعد موته تتالت حوادث الاغتيال السياسي بشكل متواتر ، ليلتحق به رفيقه في الجبهة الشعبية  بعد أشهر قليلة "الحاج الشهيد محمد البراهمي" كما أصبح الإرهاب مشهدًا يوميًا مكررًا في نشرات الأخبار يعصف بأرواح المفقرين من أبناء البلد.

في الذكرى الثالثة لرحيل شكري بلعيد، أصبح الفقراء، الذين طالما دافع عنهم، كالأيتام حول مائدة اللئام، في مشهد سياسي تسعى طبقته إلى الاستحواذ على مكاسب الثورة، أخرها الترفيع في منحة نواب الشعب وفي مرتبات أعوان الأمن والمدراء العامين لكبرى البنوك وفي ظلّ غلاء المعيشة الذي عصف بقدرة الطبقة المتوسطة والفقراء الذين أشعلوا فتيل الثورة بأجسادهم  ذات كانون الأول/ديسمبر 2010.

اقرأ/ي أيضًا:

عدنان الشواشي.. خرائط الغضب التونسي

تونس.. من الترهيب إلى الإرهاب