27-مايو-2018

عمل فني من "london artist quarter"

ماذا نفعل لاستعادة رمضان شهرًا للروحانيات، أو شهرًا لانطلاقة الروح طوال العام، وكل العمر؟ لا بد أن نعرف ما هي الروحانيات أولًا.

الروح هي مادة الحياة، التي لا يمكن شراؤها بذهب معاوية، ولا حتى بكل فساد نظام السيسي

الفلاسفة اليونانيون عرّفوها ببساطة بأنها ما وراء الطبيعة، أي كل ما هو غير مادي. وترجم الدراويش المصريون هذا التعريف، بأن استغنوا عمدًا عما هو من حاجات الجسد من طعام وشراب وملبس ومسكن، والتحرر من الماديات كافة.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا أحبّ الزوايا الحادّة؟

هذا أيضًا ما قصده المصريون القدماء من تعبير "با"، أي الروح باللغة الفرعونية. ونظريتهم أن الروح هي سرّ الحياة، وليس الطعام والشراب وغيره من حاجات المعاش. وما زالت رؤيتهم للموت تطغى تمامًا على الصورة الشعبية عنه حتى الآن. فالموت هو انسلال الروح من الجسد، فتطير فرحة مثل فراشة كانت محبوسة في قمقم، وتطوف حول الجسد أو السكن أربعين يومًا. وكان المصريون القدماء موفقين للغاية في هذا التصوير البارع للروح، وفي اتخاذ الفراشة بالذات كرمز أو أيقونة أو تقريب لمعنى الروح. فهل هناك ما هو أجمل من فراشة ملونة تنتقل بخفة من مكان لآخر؟

لكن هل يمكن تعريف الروحانيات بعكسها: أي بمجرد الاستغناء عن الماديات؟ الحقيقة أنه يستحيل تجنب هذا المعنى، ولو كان سلبيًا. فالروحانيات هي فعلًا الولوج إلى عالم لا يطمع فيه الإنسان في مكافأة مادية، ولا يخشى عقابًا يقع على جسده. ويعني ذلك أن الروح هي مادة الحياة، التي لا يمكن شراؤها بذهب معاوية، ولا حتى بكل فساد نظام السيسي، ووظائفه ومشاريعه الوهمية، وجبروته وتحكمه في مصائر خلق الله. وبكل وضوح، الروح هي مادة الحياة التي لا يمكن شراؤها حتى بكل ما في الدنيا من آيس كريم، ولا حتى بكل ما هو متاح في أفخر الموائد الرمضانية من حلويات.

وهي أيضًا مادة الحياة التي لا يمكن هزها أو إخافتها بالتهديد بسجون السيسي، ومعتقلاته وطوارئه ورعبه اليومي والموسمي. ويمكننا تعريف الروح بأنها مادة الحياة التي لا تهتز عندما تدخل حجرات التعذيب المغلقة في لاظوغلي (المقر القديم لوزارة الداخلية المصرية) التي تجعل غوانتانامو وأبوغريب وكأنهما قاعات ضيافة في قصور المماليك الجدد في الساحل الشمالي.

ولكن إن ضيّقنا تعريف الروحانيات إلى هذا الحدّ، فكأننا ننادي على الجمل كي يدخل من ثقب إبرة. فجميعنا تقريبًا يهتم بالماديات، وجميعنا تقريبًا -بمن فيهم صديقي- يرتعب من مجرد سماع كلمة لاظوغلي أو حتى نصفها الأخير وحده: اوغلي.. اوغلي..

*

 

أكره طلعت حرب، رغم أنه الاقتصادي المصري الذي أنشأ بنك مصر، ومصر للطيران، ومصر للسياحة، واستوديو مصر، ومصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى. أعرف أن ظروف العمال في العالم كله كانت سيئة، لدرجة أن عمال بلد متقدم مثل فرنسا، لم يحصلوا على الحق في إجازات سنوية مدفوعة الأجر إلا سنة 1936، بفضل أول حكومة اشتراكية فرنسية برئاسة ليون بلوم. إلا أن طلعت حرب - الذي يلقبه البعض بـ"أبو الاقتصاد المصري"- حقّق مكاسب ضخمة من كل مشاريعه تلك، ومع ذلك فإنه كان يبخل على عمال مصانع المحلة بالحد الأدنى من الحياة الكريمة.

يبدأ تاريخ تأسيس نقابات العمال في مصر في عام 1927، وكان ذلك في المحلة الكبرى تحديدًا، التي شهدت أسوأ أوضاع إنسانية للطبقة العاملة

كتبت هذا بمناسبة الحملة الإعلانية الجديدة التي يطرحها بنك مصر خلال شهر رمضان تحت شعار "مش راجع لوحده"، في استكمال لحملة رمضان الماضي التي حملت شعار "طلعت حرب راجع" في استدعاء فقير وكاشف عن مآلات النوستالجيا في أن تصبح خلال تلك الفترة الرديئة من التاريخ المصري وسيلة استهلاكية لا أكثر. لكن المناسبة الأخرى والأكثر ارتباطًا بكراهيتي لرجل الأعمال الرائد هو قراءتي لرواية بعنوان "الرحلة" (دار الكرمة، 2016) لكاتبها فكري الخولي، التي ذكرتني برواية أخرى تدور بعض أحداثها في نفس الأجواء والملابسات بعنوان "رباعية أيام الطفولة" (دار الكرمة، 2015) للمؤلف شبه المجهول إبراهيم عبد الحليم.

اقرأ/ي أيضًا: إنهم ينهشون أنقاض اليرموك

تقدم الروايتان نموذجًا قويًا لفن السيرة الذاتية الروائية في آخر نصف قرن. فكري الخولي الذي أصبح فيما بعد أحد أبطال نقابات العمال في الثلاثينيات والأربعينيات، كان قد بدأ حياته عاملًا بسيطًا للنسيج في أحد مصانع المحلة الكبرى. كان في الثالثة عشر من عمره، عندما اقتادته أمه إلى حجرة صغيرة رطبة مظلمة في أحد مساكن المحلة الكبرى، وتركته فيها وحده ليتصرّف بمعرفته في كل شؤون حياته، من أكل وشرب ونوم وكساء، وكل ذلك بمرتب شهري ضئيل للغاية كانت الأم تحضره إليه في بداية كل شهر لتقتطع منه لنفسها ولأبنائها الصغار نصفه. تحدث الخولي في روايته عن سوء أحوال العمل في مصانع طلعت حرب، ونضالات العمال من أجل تحسين شروط العمل، ومؤامرات طلعت حرب وتحالفاته مع القصر لتقطيع أوصال الحركة العمالية الناشئة، حتى "زعيم الأمة" سعد زغلول لم يكن بعيدًا عن ارتكاب الأخطاء بحق الطبقة العاملة، بإصداره قوانين تعسفية وقمعية، على حد وصف المؤلف.

أما إبراهيم عبد الحليم فيقدّم قطعة مؤثرة من الأدب الواقعي، كما أرسى قواعده مكسيم غوركي، ليحكي بأسلوب بسيط قصة حياته منذ نشأته في أسرة فقيرة تعيش في دلتا النيل في عشرينيات القرن الماضي، مرورا بانتقاله إلى مدينة الزقازيق لاستكمال دراسته (التي لم يستكملها بسبب الفقر)، ثم التحاقه للعمل بمصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى، وذلك كله على خلفية صورة مرسومة باتقان لافت لأجواء المعيشة فيما قبل الخمسينيات والتحولات الاجتماعية الكبرى التي شهدتها مصر بعدها، تترافق مع تحولات الراوي/الكاتب في عبوره عتبة الطفولة الراصدة إلى برزخ الوعي المراهق حتى وقوعه شابًا في الحب وفي أمور أخرى مُهلِكة.

أهم ما في هاتين الروايتين هو التصوير الصادق للأحوال السيئة التي عاش فيها عمال مصانع الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى: ينام عشرة أشخاص في حجرة واحدة، ليس بها ماء ولا كهرباء، وذلك لأن بعضهم كان لا يقبض إلا قرشين صاغ فقط عن يومية عمل اثتني عشرة ساعة. ثم إنه في في زمن بداية تشغيل تلك المصانع في منتصف العشرينيات، لم تكن لدى العمال أية رعاية صحية، ولا أي نوع من التأمين، لا على الحياة ولا حتى على إصابات العمل. في تلك الفترة المبكرة من النهضة الصناعية لم تكن للعمال أية خبرة أو معرفة بتلك الآلات التي يعملون عليها، ذلك الجهل الذي كان يؤدي في ذلك الوقت إلى حوادث شبه يومية.

 ثم كان هناك ذلك الغبار الناتج عن عملية التصنيع، الذي سيتسبب فيما بعد إلى إصابة المؤلف (الخولي) بأمراض صدرية متعددة، ليس هو فقط ولكن المئات والآلاف غيره من عمال النسيج. بالإضافة إلى تلك القسوة المبالغ فيها التي عومل بها العمال في ذلك الوقت، لانعدام حرية التعبير تمامًا. أدّى ذلك بالعمال لاحقًا إلى الرغبة في تكوين النقابات، إذ يبدأ تاريخ تأسيس نقابات العمال في مصر في عام 1927، وكان ذلك في المحلة الكبرى تحديدًا.

*

 

العرب ظاهرة صوتية، كما يؤكد كثيرون، ومنظمة الأمم المتحدة كل العالم يعرفها، وهي تعني اللاشيء بذاته على أرض الواقع. فلسطينيو غزة يمكنهم تأكيد ذلك، أولئك المنكوبون منذ سنوات بحصار متعدد الأطراف، داخليًا وخارجيًا، برًّا وبحرًا، المنسيون وسط طوفان التفاهة والرداءة الرمضاني والسعي اليومي لكثيرين من أجل لقمة العيش في بلاد صار البقاء الآمن على أرضها أمرًا غير مضمون بالمرة.

الوضع الجديد/القديم: إسرائيل تفعل ما تريد، وقتما تشاء وبالشكل الذي تريد، ولا تُسأل عما تفعل

لذلك ليس مفيدًا الرهان حاليًا على فورة شعوب مُنهَكة بفعل بعث الوحوش القديمة لأرواحها الشريرة في وجوه وأسماء جديدة، تفعل كل ما بوسعها من أجل الإجهاز على ما تبقى من أمل وكرامة لدى أي فرد يؤمن بقيمة الحياة والحرية في بلاد صارت تشبه البلاد.

اقرأ/ي أيضًا: "شكرًا" عزيزي الدكتاتور!

والسؤال: ما الذي يجمع الأمم المتحدة ودول الجوار "الشقيقة لإسرائيل" حتى يبقى الوضع على ما هو عليه كأبد حتمي؟ الاعتماد على التواطؤ والجُبن في مواجهة إسرائيل، التي لا تترك مناسبة إلا سخرت من النصائح والقرارات والاحتجاجات.

هذا ما يمكن الوثوق به في ظل تقارير تخبرنا بأن غزة لن تعد مكانًا صالحًا للعيش فيه بحلول عام 2020، وهذا ما يمكننا التنبيه إليه وسط تنامي الأخبار عن "صفقة القرن" والضغط على الفلسطينين لنسيان حق العودة وترحيلهم إلى سيناء كي يقيموا دولتهم ويرحموا إسرائيل ومصر والسعودية والأردن من صداعهم المستمر، وهذا ما يمكننا تأكيده بعد افتتاح السفارة الأمريكية في القدس، في يوم شهد تواصل سقوط الشهداء الفلسطينين برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي.

الوضع الجديد/القديم: إسرائيل تفعل ما تريد، وقتما تشاء وبالشكل الذي تريد، ولا تُسأل عما تفعل. آمين.

لو كانت النكتة تقتل لما بقى سياسي، ولا حتى جندي إسرائيلي واحد على قيد الحياة، هؤلاء المتخصصون في الوحشية، أساتذة الاستخفاف بقيمة الحياة، ينظرون إلى العالم من أعلى وقاحتهم، هذا أساس تربيتهم. سنفهم أفضل ربهم التوراتي لو عرفنا أتباعه. يوهوفا أو يهيفه، لا تهم التسمية، هو رب حقود ووحشي يصرّ الإسرائيليون دومًا على تحديثه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"مولانا" أفيخاي أدرعي.. لماذا لا تعفي لحيتك؟

عزيزتي إيفانكا.. إلى "حائط المبكى" وبئس المصير