05-يناير-2016

الشرفة أساسية في مباني بيروت (بلال جاويش/الأناضول/Getty)

يُنذر صياح الديك بقدوم الصباح، ومع أول شعاع للشمس. تُفتح أبواب المنازل وشبابيكها. من على الشرفات، تبدأ الحياة. تتأمل المشهد الساكن الذي تراه، تنصت إلى هذا الصمت قبل أن تستيقظ المدينة. وتغرق في زحمة الأصوات. كان سكان المدن والقرى يمارسون هذه العادة في كل صباح. وإن كانت المسافات الشاسعة والمشاهد الطبيعية تتفاوت بين القرية والمدينة. إلا أن البالكون أو الشرفة كانت جزءًا لا يتجزأ من المنزل البيروتي أو الشقة في المدينة. وكان سكان المدن يولون أهمية لوجود البالكونات في منازلهم والبنايات التي يسكنوها، وكان لا يُستلذ بشرب القهوة إلا على البالكون. حيث كان وجود ركوة القهوة على الشرفة طقسًا لا يقل أهمية عن الطقوس الأخرى.

مشاهد عبثية يستذكرها كل منا، كل من سكن الأحياء، لا يُمحى من الذاكرة صوت الجارة التي توقظ جارتها بصراخها لتدعوها إلى صبحية، وأخرى تهامس جارتها سرًا -كما تعتقد- من شرفتها إلى شرفة جارتها المجاورة فتنقل لها أخبار الجيران بصوت منخفض بينما يكون هناك من يسترق السمع لأحاديثهما، لا بل يشاركونهما الحديث. ورجل يدلي بدلو ليملأه صاحب الدكان باحتياجاته التي دونها على ورقة داخل الدلو. وشباب كُثر جرّبوا الحب والإعجاب للمرة الأولى من على البالكون، أو كانت لقاءاتهم مع معشوقاتهم تتم على البالكون.

يسمح باستثمار العقار في لبنان إلى حد يصل إلى نسبة مائة في المائة ولا يمنع من تلاصق المباني

الاهتمام بالشرفة كان واجبًا ضروريًا لربات البيوت. يهتممن بها ويَعتنين بمظهرها. فكانت كل شرفة يستدل من خلالها إن كانت ربّة المنزل "ست بيت" جيدة أم لا. وكان وجود النباتات أمرًا أساسيًا على الشرفة. حيث كانت تتلوّن الشرفات بألوان النباتات والأزهار. لتكاد تكون حديقة مصغرّة بحسب المساحة المتوافرة.

مشاهد كان بالإمكان مشاهدتها يوميًا لولا رغبة أهل المدينة بالانعزال، وتنامي مشاعر حب الوحدة بالانغلاق على أنفسهم. اليوم وفي بعض ضواحي بيروت، فقد أناسها عنصر العناية بالبالكون والاستنفاع منه. وباتوا يتجهون إلى تغليف شرفاتهم بالبرادي الزجاجية Curtain glasses. أو زجاج الـ "Securol " ذي اللون الأسود.

هذا الاتجاه الجديد ظهر بفعل عوامل عديدة، أولها تكاثر عدد المباني والاكتظاظ السكاني، ثم إن انهماك الناس بمشاغل حياتهم اليومية جعلهم يرغبون بقليل من الهدوء بعيدًا عن ضوضاء المدينة، وخلق جوًا من العزلة سعيًا لإيجاد الراحة. كما والاستفادة من مساحة الشرفة في تحويلها إلى غرفة تخفف الضغط عن باقي الغرف سيما وأن الشقق في بيروت تحولت إلى علب كرتونية صغيرة. إضافة إلى هذا كله، لا شيء يدعو للخروج والتأمل، كل ما تراه باطون، وأسلاك كهربائية وأحياء عشوائية. لا شيء جميل.

المهندس عادل قليلات يقول إن "الشكل الهندسي للشرفات تغيّر بين الماضي والحاضر، حيث كان يعتمد على التراس بدلًا من الشرفة. فكانت الأولوية للتراسات الكبيرة بينما كان حجم البرندات صغيرًا، وتماشيًا مع العصر الحديث، بات بالإمكان بناء الشرفات بالشكل الذي يريده الفرد".

الناس في المدينة لا تعرف بعضها وتنعدم الروابط والعلاقات الاجتماعية بعكس الزمن الماضي

قليلات يستند إلى قانون التنظيم المدني الذي يسمح ببناء الشرفات مجانًا كنوع من الاستثمار السطحي. إذ يحق للمستثمر بناء نحو 20% من مساحة الشقة. ولأن قانون التنظيم المدني يسمح باستثمار العقار إلى حد يصل إلى نسبة مائة في المائة، ولا يمنع من تلاصق المباني، الأمر الذي أدى إلى انعدام الخصوصية. وبالتالي البحث عن سبل أخرى، فاللبناني بشكل خاص يسعى إلى الخصوصية بشكل أساسي، بعكس المواطن الغربي الذي لا يهتم للقيم والخصوصية. ويمكن ملاحظة هذا الشيء بعد الاطلاع على شكل بناء الحمامات في الدول الغربية والتي تبنى جدرانها من زجاج بعكس المواطن العربي الذي لا يقبل هذا الأمر. وبعد اكتظاظ المدينة بسكانها وتلاصق المباني، صار صعبًا على السكان استعمال الشرفات بعد أن كشفت على بعضها. فاتجه اللبناني إلى إغلاق شرفات منزله بالبرادي الزجاجية ذات اللون الأسود والتي تحجب الرؤية إلى داخل المنزل".

إلغاء البالكونات له بعد اجتماعي، بحسب قليلات، ويشرح: "الناس في المدينة لا تعرف بعضها، كلهم غرباء، وتنعدم الروابط والعلاقات الاجتماعية بعكس الزمن الماضي، إذ كان أهل الحي الواحد في بيروت يرتبطون بعلاقات وثيقة، يلقون التحية على بعضهم البعض، ويهتمون بالتلاقي على البرندة وإجراء الأحاديث فيما بينهم. بينما اليوم، الجيران يأتون من بيئات مختلفة وثقافات مغايرة. ولهذا راعى القانون هذه الفروقات، فبعد أن كان يمنع من إغلاق البرندات بالبرادي الزجاجية مع فرض غرامة مالية، عدّل هذا القانون ليراعي حجم الشقق الصغيرة ورغبة المواطن في استغلال كل مساحة صغيرة في منفعته الخاصة.

واللافت أيضًا، أن عمليات الانتحار كانت تتم من خلال البالكون، تقلّصت هذه العمليات التي تتم من خلال البالكون اليوم، بعد إغلاقها بالزجاج الأسود، ليُستعاض عنها بالانتحار من خلال السطح أو وسائل أخرى. أمّا بالنسبة لأغنية "من الشباك لأرميلك حالي"، فيمكن قلب كلماتها بعد إيجاد مكان آخر غير الشباك "للرمي بالنفس".

اقرأ/ي أيضًا:
"عشوائيات بيروت"... وجه المدينة الخفي
عاشوراء في بيروت.. الموضة والطقوس