09-مارس-2022

ساهمت روسيا في تأسيس إسرائيل (Getty)

تعالت الأصوات المصرية المؤيدة لموقف روسيا في حربها على أوكرانيا، حتى أن هاشتاج #ادعم_بوتين تصدر على موقع تويتر منذ أيام وتلاه هاشتاج #احنا_مع_روسيا، فما الذي يدفع إلى تأييد دولة غازية؟

تعالت الأصوات المصرية المؤيدة لموقف روسيا في حربها على أوكرانيا، حتى أن هاشتاج #ادعم_بوتين تصدر على موقع تويتر، فما الذي يدفع إلى تأييد دولة غازية؟

تهاوت الأنظمة الاستعمارية التقليدية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدأ عالم جديد في التشكل تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتسعى لكسب الدول في صفها ومد جذور السياسات الأمريكية. في الوقت نفسه كان المستوطنون اليهود يزحفون نحو الأراضي الفلسطينية بعد ثلاثة أعوام من الهولوكوست بدعم وتسليح من الغرب لإرساء قواعد دولة استعمارية في المنطقة العربية. وفي الجهة الأخرى من الشرق رفض السوفيت الانصياع لقواعد العالم الجديد، لنبدأ في مرحلة طويلة من الحرب الباردة والاستقطاب السياسي.

تربط الجمهورية المصرية منذ نشأتها في 1952، علاقات قوية بالاتحاد السوفيتي، فحركة الضباط الأحرار تشكلت في الأساس كتيار وحركة من حركات التحرر الوطني والتخلص من أزمنة الاستعمار والاستبداد. وبالتالي كان بديهيًا من جمال عبدالناصر ورجاله الاتجاه نحو الشرق ومعاداة الغرب وأمريكا تحت دعاوى الاستقلال الوطني والقومية العربية، وعلى الرغم من كون عبدالناصر أحد المؤسسين لحركة عدم الانحياز في خضم الحرب الباردة بيد أن انحيازه جاء واضحًا إلى الجانب السوفيتي.

منذ ذلك الحين، ينظر عدد كبير إلى روسيا على أنها الحليف الأهم لمصر في مواجهة الأعداء، كما عملت الصحافة ووسائل الإعلام الرسمية لسنوات على تثبيت هذه الصورة في العقول، ناهيك عن سنوات طويلة اعتمدت فيها السياحة المصرية، أحد أهم مصادر الدخل القومي المصري، على السائح الروسي في المرتبة الأولى.

هل تعادي روسيا إسرائيل حقًا؟

مع الأيام الأولى من يونيو/حزيران 1967 شنت إسرائيل هجومًا خاطفًا على مصر، وتمكنت سريعًا من كسب المعركة وتدمير السلاح الجوي المصري واحتلال شبه جزيرة سيناء، ما دفع الاتحاد السوفيتي إلى قطع علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل وتحذير الولايات المتحدة وإسرائيل من توابع استمرار العدوان الذي قد يدفع الاتحاد إلى التدخل في العمليات العسكرية، ولم تعد العلاقات الروسية-الإسرائيلية بشكل رسمي ومستقر نسبيًا إلا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991. وبعد نكسة 1967، لجأ جمال عبدالناصر إلى الاتحاد السوفيتي باعتباره الحليف الاستراتيجي للمساعدة في إعادة بناء الجيش المصري وتدريب الجنود على الأسلحة الحديثة وشراء المعدات العسكرية. كان ذلك في ذروة الحرب الباردة بين قطب الولايات المتحدة الأمريكية وقطب الاتحاد السوفيتي.

في بداية الحرب الروسية-الأوكرانية، أدانت إسرائيل على لسان وزير خارجيتها يائير لابيد العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا، معتبرة الهجوم الروسي انتهاكًا للنظام الدولي. ووفق ما صرّح به لابيد فإن بلاده تجمعها علاقات جيدة مع روسيا وأوكرانيا، ويوجد آلاف الإسرائيلين واليهود بكلا البلدين الذين تعمل الحكومة الإسرائيلية على حمايتهم والحفاظ على أمنهم وسلامتهم، مضيفًا أن الحرب ليست وسيلة حل النزاعات.

دفعت هذه الإدانة روسيا إلى مهاجمة إسرائيل في مجلس الأمن على لسان المندوب الروسي الذي عبّر عن قلق بلاده من خطط تل أبيب لتوسيع المستوطنات في هضبة الجولات المحتلة، لافتًا إلى أنها تتناقض مع معاهدة جنيف لعام 1949، وأكد على موقف روسيا بعدم اعترافها بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان كونها جزء لا يتجزأ من سوريا. وأشار كذلك إلى عدم اعتراف روسيا بالقدس الشرقية كعاصمة لإسرائيل كونها جزءًا من الأراضي الفلسطينية.

تدفع مثل هذه التصريحات والألاعيب السياسية البعض إلى التفكير في روسيا ومن قبلها الاتحاد السوفيتي على أنها المعادي الأول للغرب المؤيد لدولة الاحتلال، وأن من الواجب عليهم الوقوف إلى جانب السوفييت في حروبهم وسياساتهم الخارجية دعمًا للقضية الفلسطينية، وعملًا على وجود طرف آخر قوي يواجه الإمبريالية والسلطوية الغربية ويعمل على استمرار القضية الفلسطينية وفرضها كأمر هام على الساحة الدولية. فبدون ذلك ستُدفن القضية الفلسطينية دون وجود طرف قوي قادر على خلق التوازنات.

دور الاتحاد السوفيتي في نشأة إسرائيل

"إن الحجج القانونية والتاريخية التي يقدمها العرب ليست الآن بذات شأن، وليس للاتحاد السوفيتي رغبة في الدخول في الجدل البيزنطي مع العرب. فيكفي أن نعلم بأن اليهود عانوا ويعانون من الاضطهاد. وفي طليعة المسؤوليات علينا هنا في الأمم المتحدة أن نضمن لليهود وطنًا خاصًا بهم. ومن الظلم أن لا نساعدهم على ضمان مثل هذا الوطن. ومن الحق الشرعي الكامل لليهود أن يفرضوا سيادتهم على وطن في فلسطين فلا يكونوا تحت رحمة العرب. فإذا اضطررنا إلى مراعاة شعور العرب ومصالحهم فهذه المراعاة قد تكون بضمان نوع من الوحدة الاقتصادية بينهم وبين الدولة اليهودية الجديدة. إن الاتحاد السوفيتي يدعو ويؤيد ويعمل من أجل إقامة الدولة اليهودية وضمانها. والاتحاد السوفيتي سيساعد على ذلك بكل الوسائل".

كان هذا جزءًا من كلمة المندوب السوفيتي "سيمون تسارابكين" أمام اللجنة السياسية المؤقتة بالأمم المتحدة في جلسة 13 أكتوبر 1947 وقبل أن يصدر قرار تقسيم فلسطين رقم 181 في نوفمبر 1947.

يرى بعض المحللين السياسيين والمهتمين بالشأن الروسي، أن الاتحاد السوفيتي له دور بارز ومحوري في قيام دولة إسرائيل قد يفوق دور بريطانيا في وعد بلفور 1917 ودور الدعم الأمريكي فيما بعد ذلك، حتى أن الكاتب اليهودي الروسي "ليونيد مليتشين" يقول إنه "لولا رغبة ستالين في قيام إسرائيل، لما كان لها وجود اليوم" ناسبًا فضل وجود إسرائيل بالكامل إلى رغبة الزعيم السوفييتي ودهائه، مدعمًا وجهة نظره تلك بالعديد من الوقائع والوثائق في كتابه "لماذا أنشأ ستالين إسرائيل؟" عام 2005.

ومن قبل إصدار كتاب مليتشين بقرابة الأربعة عقود، صدر كتاب "موسكو وإسرائيل – عرض مدعّم بالوثائق لجهود موسكو في خلق إسرائيل وإبقائها" في عام 1967 لكاتبه الدكتور عمر حليق، وامتدادًا لهذه الرؤى التاريخية صدر العام الماضي كتاب "موسكو- تل أبيب (وثائق وأسرار)" للصحفي المصري سامي عمارة، وهو صحفي ومراسل وخبير في الشأن الروسي. ويستعرض عمارة في كتابه الدور المحوري للاتحاد السوفيتي في نشأة إسرائيل ودعمها حتى قبل أن يصدر قرار التقسيم بالأمم المتحدة. تقديرات يتفق معها حتى زعماء صهاينة، مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بنغريون، الذي أشار إلى فضل روسيا الكبير على إسرائيل.

من شبه جزيرة القرم إلى فلسطين

يؤيد عمارة فكرة أن الدعم السوفيتي لإنشاء وطن قومي لليهود على الأراضي الفلسطينية كان من العوامل الرئيسية في قيام دولة إسرائيل وليس وعد بلفور كما هو شائع، فالشهادات المستندة إلى ملفات جهاز أمن الدولة السوفيتي "كي جي بي" تؤكد أن ستالين وقف بقوة وراء فكرة وعد بلفور لإنقاذ شبه جزيرة القرم من إقامة وطن لليهود بها!

كانت الخطة في البداية تقتضي إنشاء وطن قومي بديل يجمع يهود العالم من الشتات على أرضه، وجاء المقترح الأول بتوطين اليهود على شبه جزيرة القرم التابعة للاتحاد السوفيتي ويمنحهم حكمًا ذاتيًا، إلا أن سكان القرم اعترضوا على الخطة وانتفضوا في وجه اليهود القادمين لاحتلال أراضيهم. هنا خشى ستالين من خطورة زرع بؤرة توتر قد تؤدي إلى نشر الاضطرابات في الاتحاد السوفيتي كافة ما يتسبب في إضعافه وتفككه، لذا تراجع عن قراره ووجه الدفة إلى دعم فكرة قيام دولة قومية لليهود على الأراضي الفلسطينية، كما جاء في وعد بلفور، وبدأ بترحيل اليهود إلى فلسطين ودعمهم بالمال والسلام.

يذكر ليونيد مليتشين في كتابه أن الدعم السوفيتي لإسرائيل جاء مبكرًا حتى قبل إعلان قيام الدولة، فأرسل الاتحاد السوفيتي الأسلحة إلى يهود فلسطين عبر تشيكوسلوفاكيا قبل ثلاثة أشهر من إعلان قيام الدولة الإسرائيلية في مايو/أيار 1948، كما أن الاتحاد السوفيتي كان أول المعترفين قانونًا بدولة إسرائيل حتى قبل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.

الممثل الشخصي لإسرائيل

"إن موسكو ليست مجرد حليف، بل إنها الممثل الشخصي لإسرائيل". كانت تلك كلمات وزير خارجية إسرائيل، موشيه شاريت في اجتماع بمقر الأمم المتحدة عام 1949 مع نظيره السوفيتي أندريه فيشينسكي. وتأكيدًا على عمق العلاقات بين البلدين في تلك السنوات الأولى، صرّح أوبري مائير إيبان، أول مندوب دائم لإسرائيل في الأمم المتحدة، وأحد أهم السياسيين البارزين في تلك الفترة الذين مهدوا لقيام إسرائيل، "أن لولا الاتحاد السوفيتي وحلفائه، وما قدمه لإسرائيل من أسلحة عبر حلفائه في المعسكر الشرقي، لما استطعنا الصمود دبلوماسيًا ولا عسكريًا".

لم تدم فترة التناغم بين البلدين لوقت طويل، فبدأت الخلافات سريعًا مع بداية عام 1953 عندما أرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن جوريون رسالة إلى أعضاء حكومته يعبّر فيها عن رفضه للنظام البلشفي في روسيا، قائلًا "لا أقبل قطعيًا النظام البلشفي. فذلك لا علاقة له بالدولة الاشتراكية، بل إنه حظيرة للعبيد. إنه نظام قائم على القتل والكذب وخنق الروح البشرية وسلب حريات العمال والفلاحين. إنه استمرار أكثر صرامة وتطرفًا من القيصرية الإمبريالية". وبعد شهر من رسالة بن جوريون وفي فبراير/شباط 1953 حدث تفجير في مقر البعثة الدبلوماسية السوفيتية بتل أبيب وانقطعت على إثره العلاقات بين الدولتين.

ورغم عودة العلاقات بعد 6 أشهر إلا أن الأجواء ظلت متوترة، واستشعر السوفيت ميلًا لدى إسرائيل نحو المعسكر الغربي وبداية خسارتهم تدريجيًا لحليف استراتيجي هام ولاعب مؤثر في المنطقة، فبدأ التقارب بين النظام المصري بقيادة جمال عبدالناصر ونظيره السوفيتي لصنع حالة من التوازن لمواجهة النفوذ الأمريكي كمسكب لكليهما. فالسوفيت يضغطون على أمريكا ويقللون من نفوذها من خلال دعم الأنظمة العربية في مواجهة إسرائيل، والنظام المصري يستفيد من علاقاته الجيدة مع موسكو في الدعم السياسي والعسكري.

في بداية سنوات حكمه، طلب عبد الناصر التسليح العسكري من بريطانيا والولايات المتحدة إلا أنهما رفضا دعمه بالشكل الذي يريد كنوع من الحفاظ على التفوق العسكري لإسرائيل، فما كان من عبدالناصر سوى الللجوء إلى الاتحاد السوفيتي الذي رحب بالتعاون العسكري ما أثار حفيظة الغرب. وعندما قرر عبدالناصر تأميم قناة السويس في 1956 كأحد قرارات الاستقلال الوطني وفرصته الوحيدة للحصول على تمويل مناسب لتنفيذ مشروعه القومي لبناء السد العالي بعد أن رفضت أمريكا تمويل السد، ارتأت الحكومات الغربية في قرارت عبدالناصر المتتالية حاجة إلى التحجيم. أمر دفع ببريطانيا وفرنسا وإسرائيل إلى شن هجوم ثلاثي على مصر عُرف باسم العدوان الثلاثي أو حرب السويس، وكان هذا الهجوم سببًا في قطع العلاقات مرة أخرى بين الاتحاد السوفيتي وإسرائيل. ولم يتوقف العدوان إلا بعد أن هدد الاتحاد السوفيتي بضرب لندن وباريس إذا لم تنسحب القوات الأجنبية من مصر.

ومن ثم ظلت التوترات قائمة بين المعسكر الشرقي والمعكسر الغربي، حتى حدثت القطيعة الكبرى بين الاتحاد السوفيتي وإسرائيل بسبب حرب 1967، واستمرت القطيعة لأكثر من عقدين من الزمن حتى انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991 رغم تغير السياسات المصرية بوفاة عبدالناصر 1970، وقدوم الرئيس أنور السادات بأجندة سياسية مختلفة تسعى لكسب رضا أمريكا بقطع العلاقات مع المعسكر الشرقي.

شد الحبل بين روسيا وأمريكا.. من يربح صف إسرائيل؟

"لا أخشى أحدًا قدر الدب الروسي". بهذه الكلمات عام 1970، عبّرت رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير ذات الأصول الأوكرانية والسفيرة الأولى لإسرائيل في موسكو، عن قلقها حيال تهديدات روسيا المحتملة. أدركت جولدا مائير مبكرًا دور روسيا وثقلها التاريخي وأهميتها الاستراتيجية. بعد أربعة عقود من تصريحها، قال الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين إن "إسرائيل بمثابة دولة روسية، فنصف اليهود الإسرائيلين يتحدثون الروسية".

 لعبت هجرات يهود روسيا إلى إسرائيل بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وبلغت أكثر من مليون يهودي، دورًا كبيرًا في صياغة السياسات وتحسين العلاقات بين البلدين، ومن جهة أخرى في المساهمة في دعم إسرائيل ماديًا وعلميًا وثقافيًا من خلال خبرات ونفوذ اليهود الروس المهاجرين. لذا تُدرك إسرائيل جيدًا أهمية الروس وضرورة عدم إغضابهم. وفي الوقت نفسه ضرورة الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية حليفها التاريخي والداعم الأول لها منذ قيامها في 1948.

الأمر يُشبه لعبة "شد الحبل"، فإسرائيل في المنتصف، وأمريكا وروسيا يتجاذبان الأطراف، فيما تعمل تل أبيب على محاولة حفظ التوازن بين القطبين

الأمر يُشبه لعبة "شد الحبل"، فإسرائيل في المنتصف، وأمريكا وروسيا يتجاذبان الأطراف، فيما تعمل تل أبيب على محاولة حفظ التوازن بين القطبين. فكما لإسرائيل مصالح للحفاظ على العلاقات مع المعسكرين الشرقي والغربي، فكذلك كل معسكر له مصالح لا تقل أهمية للارتباط بإسرائيل. يبدو ذلك جليًا بالنسبة لأمريكا عندما عبّر الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن في أول زيارة له لإسرائيل في 1973 في حضور جولدا مائير أنه "لو لم توجد إسرائيل، لتحتم على الولايات المتحدة الأمريكية خلقها"، في إشارة لمدى عمق الصداقة بين الدولتين وأهمية وجود إسرائيل في المنطقة بالنسبة لأمريكا. الأمر ذاته بالنسبه إلى موسكو، فتكفي الإشارة إلى تصريح بوتين في 2019 عن اليهود الروس المهاجرين إلى إسرائيل "بالطبع إسرائيل هي وطنهم، ولكننا نعتبرهم مواطنينا أيضًا"، في إشارة واضحة إلى وحدة المصالح بين الدولتين.