17-يونيو-2018

تمام عزام/ سوريا

ما الذي يحتاج إليه المثقف اليوم تحديدا؟؟ الأفكار؟ النظريات؟ المناهج؟ أظنّ أنّ ما يحتاج إليه هو التمتع بالشجاعة وبالجرأة. الكتابة هي جرأة في الأساس. وليست صدفة أن يقرن فيلسوف الأنوار إيمانويل كانط، في بيانه الشهير "التفكير بالشجاعة". أن تكون شجاعًا، يعني أن تقارع الحقيقة، وتقولها مهما كان الخطر الذي يحدّق بك. ثمّ إنّ الكتابة هي هذا الالتزام بالحقيقة، ولو كان ذلك بالسير على حواف الهاوية.

هل يثير الشاعر الرعب إلى درجة الحكم عليه بالإعدام؟ هل يمثل صانع الكلمات والموسيقى تهديدًا على أمّة المسلمين؟

لقد وعى الروائي أمين الزاوي، الذي نكتشفه كاتبًا لمقال الرأي في كتابه – حريق في الجنة – (un incendie au Paradis!)، بهذا الرهان. لقد كان شجاعًا قدر الكفاية ليكتب من داخل المناطق الحذرة والمتحركة والمسيجة بالأحكام الدوغمائية. كتب عن الدين وعن المقدس، وشرحّ واقع المسلمين، وواقع الإسلام في هذا العصر الذي ننتمي إليه. لقد كتب تحت وقع أسئلة الإنسان/ المواطن المعاصر، في مُجتمع ما زال يعاني من أعطاب تاريخية واجتماعية ونفسية وثقافية.

اقرأ/ي أيضًا: أمين الزاوي "يُحرِّر" غزالة ابن طفيل من حديقتها

في بعض مقالاته كتب أمين الزاوي عن الحركات الإسلامية، التي وإن اختلفت تسمياتها فهي تشترك في أنّها تشكل خطرًا على الحضارة الإنسانية، وعلى كل ما له صلة بالفن والجمال والثقافة والعقلانية. فهي لم تكتف بإنتاج العنف في خطاباتها، بل حرصت على نقل ذلك العنف إلى أرض الواقع، من خلال الدعوة إلى ازدراء كل أشكال الحياة.

 من أين خرج مارد التطرف الإسلامي؟ اعتبر أمين الزاوي أنّ كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، هو مانفستو الحركات الإسلامية المتطرفة، ففي هذا الكتاب وضع قطب أسس الرؤية المتطرفة للدين. لقد خرجت من هذا الكتاب الأحقاد المتطرفة ضد العقل وضد الثقافة وضد الفن والجمال. يقول الزاوي إنّ دينًا دون ثقافة هو دين ميت، أمّا التدين الذي لا ترفده الثقافة فهو يحوّل المتدين إلى وحش حقيقي.

ما تعيشه المجتمعات الإسلامية هو عودة التدين، وهذه العودة وجدت مجتمعات غارقة في التخلف وفي الفقر وتنام تحت خزان كبير من العقد والعنف القديم، كلها وفّرت البيئة المناسبة لنمو الأفكار المتعصبة، التي في جوهرها هي رؤية عنيفة إزاء الحياة. لقد بلغ الحد بهذه المجتمعات إلى محاكمة الفن والشعر والجمال في المحاكم الشرعية باسم شريعة الله.

في هذا السياق تساءل أمين الزاوي، في مناسبة حديثه عن الشاعر أشرف فيّاض: هل يثير الشاعر الرعب إلى درجة الحكم عليه بالإعدام؟ هل يمثل صانع الكلمات والموسيقى تهديدًا على أمّة المسلمين؟ كتب: "حين نحكم على شاعر بالموت بتهمة الكفر أو لأي سبب آخر، باسم الإسلام وفي أرض النبوة، فهذا يعني، وبامتياز، أننا في عصر الوحشية الإنسانية" (حريق في الحنة: ص14).

 إنّ ما يخيف الروائي أمين الزاوي هو اتساع رقعة التوحش داخل النفوس المتدينة، والتي لم تترك مكانًا يشغره الجمال في وعيها. لهذا لا يمكن تخيل هذا المتدين المعادي للجمال وللحياة إلا إرهابيًا يزرع الموت أينما حلّ.

يتحدث الجميع عن سبل تجفيف منابع التعصب والإرهاب الديني، وجلّهم يتحدثون عن الحلول السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكن قليلين من يتحدث عن حلّ من نوع آخر، إنه تربية الإنسان على حب الفن، وتعويده على قراءة الشعر، وعلى مصادقة الشعراء. الحل يكمن هنا عند أبواب الشعر. نفهم بأنّ الشعر هو لحظة إنسانية جد مكثفة، لأنّ لا شعر دون حرية، ودون جمال. إن الشعر طائر يحلق بجناحيه خارج الأقفاص الأيديولوجية والدينية.

إننا ننتمي، وللأسف، إلى مجتمعات تكفّر الشعراء، وتدعو إلى حرق كتب رشيد بوجدرة، وإلى قتل أصحاب الوعي المتقد الذين لا يسايرون القطعان. ولأجل تجفيف منابع الإرهاب في كل مكان، لابد أن ندافع عن حياة الشاعر أشرف فياض وعن غيره من الأدباء والكتّاب. حماية حرية الشعراء هي وضع حد للنفاق السياسي والثقافي وإنهاء عصر الأكاذيب السياسية. هي أن تتوقف هذه المجتمعات عن حب براميل النفط، وتستبدلها بحب الشعراء.

قدّم لنا أمين الزاوي قراءات ذات طابع سوسيولوجي ونقدي، ومن بين هذه المقالات، مقالته "الدين في بيوت الصفيح الجزائرية!!"، وفي هذا المقال طرح سؤالًا سوسيولوجيًا مهمًا: لماذا يسكن الجزائريون معًا، ويكرهون العيش معًا؟ سؤال مُربك، لكنه لا ينفي الواقع، بل يكشف الغطاء عنه. يمكن أن أضيف شخصيًا مثالًا آخر: الجزائري يحب الجلوس بمفرده في الحافلة، ويتجنب قدر الإمكان الجلوس مع غيره. إنه يبحث دائمًا عن المكان الذي يكون فيه وحيدًا.

إنّ الأحياء السكنية الجديدة التي بدأت تنبت مثل الغابات في كل مكان غيّبت الجانب الجمالي، فهي مجرد كتل إسمنتية متراصة بالقرب من بعضها البعض، دون تناسق، ودون احترام للأبعاد الجمالية. وفي مقابل هذا الاجتياح الإسمنتي، لم تول الدولة أهمية لبناء الفضاءات الثقافية: قاعات سينما، مكتبات، دور مسرح... إلخ فهذه الفضاءات وظيفتها خلق مناخ للتعايش المشترك. يعود أمين الزاوي مرة أخرى للتأكيد على دور الثقافة والفن والأدب في تطوير رؤية اجتماعية سليمة. الفن ينقي الإنسان من شوائب التخلف والتوحش، وعدم الاستثمار في هذا البعد فيه، يعني تركه عرضة لتمدد صحراء التطرف، والذي تستغله الحركات الدينية لصناعة الإرهابيين. أجد أنّ الزاوي، يقترب كثيرًا من أفكار بعض فلاسفة مدرسة فرانكفورت الألمانية، أي أصحاب النظرية النقدية، الذين دافعوا عن الفن، بوصفه آخر قلاع الإنسانية المتماسكة، ضد النظام الرأسمالي التشييئي، الذي أفقر الثقافة الإنسانية من أبعادها الجمالية. إذ لا تختلف الأنظمة الشمولية التي انتقدها الفلاسفة النقديون عن الأنظمة اللاهوتية التي زرعت الخراب الحضاري في المجتمعات الإسلامية.

يعود أمين الزاوي إلى التراث الإسلامي، ليقرأ من خلاله واقعنا الإسلامي المعادي للثقافة. يقول: "منذ قصة القائد عمرو بن العاص ورئيسه عمر بن الخطاب مع مكتبة الإسكندرية، توالت اللعنات التي تعرّضت لها الكتابة والكتّاب الاحرار الذين ينتمون إلى الفضاء العربي ـ الإسلامي". (حريق في الجنة، ص33) وللتذكير، فإنّ عمر بن الخطاب قد طلب من عمرو بن العاص حرق كل الكتب التي لا علاقة لها بالقرآن الكريم. يقول أمين الزاوي إنه منذ أن قرأ هذه القصة التاريخية لم يبارحه الخوف من النّار، الخوف على الكُتب وعلى حياة الكُتّاب. فالذين يدعون اليوم إلى حرق الكتب غير الدينية يستندون إلى هذه الواقعة وإلى غيرها، التي تمنحهم كلّ الشرعية لإقامة محارق فظيعة ضد الإنتاج المعرفي الإنساني، وما تقوم به داعش اليوم، هو أكبر دليل على ذلك.

في أي زمن نعيش؟ يتساءل أمين الزاوي. وعن أي مواطنة نبحث؟ وعن أي ديموقراطية تليق بهذه المجتمعات التي ترزخ تحت ثقل من الأحكام المعادية للإنسان. يرى أمين الزاوي بأنّ حق المواطنة هو أسبق من الديموقراطية. فلا معنى للديموقراطية إذا كان الفرد العربي المسلم لا يتمتع بأدنى حقوق المواطن. بل يرى أنّ المواطنة تمرّ قبل الدين، فلا مواطنة دون احترام للتنوّع العقائدي، والتعدد اللساني، ودون احترام لحقوق الإنسان. الحروب التي تغذّيها العقائد الدينية هي حروب قذرة.

إذا كانت الجامعة هي حصن العقل والعقلانية ومنبع النزعة الإنسانية في التفكير، ومنبر الإبداع وصناعة الأفكار، فهي قد فشلت في واقعنا الجزائري في أداء دورها الطبيعي، بل أنها بدلًا من محاربة الظلامية الفكرية والدينية، صارت حاضنة لها. يقول الزاوي، بهذا الصدد بأنّ المدرسة كما الجامعة نجحتا في تكوين أجيال من الأميين الذين يسهل انقيادهم إلى الفكر المتطرف. إنّ مجتمعًا لا يولي أهمية للقراءة وللإبداع، هو مجتمع قد يبدو محكومًا عليه بالظلامية الدينية، وبالأمية السياسية والثقافية. أليس واقعنا الاجتماعي والسياسي والثقافي ينبئ بمستقبل غامض في ظل سيادة اللاعقلانية، وازدياد وتيرة العنف باسم الدين؟ أليس السياسي اليوم شخصًا مفرغ ثقافيًا، لا يستند إلى أي مرجعية فكرية وأدبية، بقدر تمسكه بمرجعية واحدة وهي خدمة مصالحه الآنية؟

حق المواطنة هو أسبق من الديموقراطية. فلا معنى للديموقراطية إذا كان الفرد العربي المسلم لا يتمتع بأدنى حقوق المواطن

يلتفت أمين الزاوي إلى واقع بعض الدول العربية، مثل العراق وسوريا، التي تحولتا إلى مرتع للدواعش. إنّ ما تعرضت له آثار الموصل بالعراق من تدمير وتخريب هي علامات عن بداية حرب عمياء على الفن والتاريخ، يقول الزاوي إنّها حرب عنيفة ضد الذاكرة التاريخية والأنثروبولوجية والثقافية لهذه البلدان، وما تقوم به داعش هي محاولة خلق مجتمع بلا امتداد تاريخي متنوع.

اقرأ/ي أيضًا: "طفلُ البيضة" لأمين الزاوي.. العزلة والفقدان وفوبيا الآخر

إنّ الرسالة الأساسية التي يريد الروائي أمين الزاوي تمريرها، أنّ وظيفة المثقف اليوم هي أن يكون صوته حاضرًا في النقاشات المصيرية، خاصة في صفحات الجرائد السيارة، التي هي أقرب وسيلة للوصول إلى مختلف الشرائح الاجتماعية. فكتابه "حريق في الجنة" هو في الأصل سلسلة من المقالات التي كان ينشرها أسبوعيًا في جريدة  Liberté الناطقة بالفرنسية، وفي هذه المساحة مارس التفكير النقدي بكثير من الشجاعة والمسؤولية الفكرية. قد نختلف معه في بعض الأفكار أو الآراء، وهذا طبيعي جدًا، بحكم حساسية الموضوعات التي ناقشها، والتي تتسم بالكثير من الحذر، إلاّ أنّ الكتابة عنها، في زمن داعشي، مسيج بالأسيجة الدوغمائية بتعبير المرحوم محمد أركون، أو المدجج بعودة حراس المعابد، يمثّل ضرورة ثقافية، والتزام ثقافي من لدن مثقف وكاتب روائي ظلّ وفيا لنفس الهواجس الثقافية والفكرية والأدبية، وهي الدفاع عن الإنسان وعن الجمال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النقد محروم من الوعي النقدي

عزيزي عبد اللطيف اللعبي.. لم يعد هنالك شيء أجمل من الصمت والحلم