09-نوفمبر-2018

غرافيتي من قصيدة لا تصالح لـ أمل دنقل

ما إنْ لبستُ ذلك الثوبَ الرمادي ووضعتُ العمامة، حتى بتُّ جاهليًّا من شبه الجزيرة العربية.

كنت وقتها عضوًا عاملًا في شلة لا يحتاج الانتساب إليها غير مهارات في اللصوصية. فتْيَةً يتلذّذون بالعطلة الصيفية كنّا. نقضي النهار الطويل في السطو على المزارع المجاورة، نسرق الكرز والخوخ، أو الحمام والأرانب، لنمارس بعد ذلك بطر قطاع الطرق، فنتراشق بالثمار، أو نمارس ساديّتنا على الحيوانات المسبيّة.

فعلنا كلّ ما يمكن أنْ يفعله أبناء الريف، حتى أخذنا السّأم بالكامل. كبير شُذّاذ الآفاق، سمّيناه بذلك إعجابًا بالتعبير الجميل الذي يطلقونه على العدو، جاء بالخبر الذي غيّر خطتنا الأخيرة؛ النزول إلى سوق الحميدية من أجل السطو على البسطات وبيع الغنائم، من ساعات وخواتم وكاسيتات، لأولاد المرتاحين أولئك الذين قطعت العطلة رزقنا منهم، إذ كنا نكتب لهم الوظيفة البيتية لقاء 25 ليرة، أو نجلسهم إلى جوارنا في الامتحانات الشهرية لقاء 75 ليرة عن المادة الواحدة. قال القائل إنهم يصوّرون مسلسلًا عن حرب البسوس ويحتاجون إلى كومبارس، وسيدفعون للواحد 250 ليرة في اليوم. اتفقنا وفي اليوم التالي كنا في "اللوكيشن". سيحتاج أفهمُنا عشر سنوات، فيما بعد، ليدرك معنى الكلمة. ودخلنا جاهلية الجزيرة العربية من ريف دمشق.

كان علينا خوض حرب من أجل ناقة تسبّبت بقتل ملكٍ تسبّبَ بقتل المئات.

تحت شمس تصدّع الصخور، كنا أشبه بمرتزقة حروب العصور الحديثة، ندين بالولاء لمن يدفع.

أخذت معي علبة سجائر مالبورو كنت احتفظت بها لزوم موقفٍ يحتاج إلى وجاهة، وفي الاستراحات، وأمام التغلبيين، المقطوعين من الدخان دومًا، أستل السيجارة من علبتها ببطءٍ، وأتمزمز بها في استعراض يخجل منه ديك، مستعيرًا أمامهم حركات فارس إعلانات مالبورو، لكنه كابويّ عربيّ هذه المرّة!

أغلب أبناء حارتي موجودون: الشيطان، القملة، خربوط، غالب، الذي نجا بأعجوبة من لعنة الألقاب، حتى صاحب البقالة جاء وترك لزوجته إدارة الدكان. وجودهم حرّض المخيلة، بشكل مضاعف، لأرى خلال نوبة تشويش كاملة أنها حرب حقيقية، في زمنٍ حقيقي، وما هؤلاء إلا أبناء قبيلتي الموشكة على التشرذم بسيف الزير سالم.

كل ما أعرفه عن الجاهلية ينحصر في المعلقات التي حفظت منها معلقة امرئ القيس، هذا الذي سأعرّف، بعد عرض المسلسل، أنه حفيد أبي ليلى المهلهل. بسبب هذه المعلّقة كنت أشير أمام القملة إلى الآفاق سائلًا إياه بعربية من العيار الثقيل، وفي البال البيت القائل "فتوضّح فالمقراة لم يعف رسمها": "كم ليلة نحتاج لنبلغ توضح لو خرجنا غداةً من المقراة يا قملة؟ فيصفق كفًّا يكفّ، صارخًا: "أخشى أنك أصبت بضربة شمس يا ولد!". وريثما أفكر بطريقة لإفهامه يكون قد نشر نبأ هلوستي بين الجند والرعاع.

مرّ مخرج المسلسل حاتم علي فمدْدت له سيجارة مالبورو تناولها وشكرني، وما إن مضى حتى هجم القوم عليّ بأغمدة سيوفهم: "يا بن الكلب، نحن أيضًا نريد حصتنا من المالبورو".

لكثرة ما يعاد تصوير المشاهد بسبب واحد يدخن أمام الكاميرا، أو آخر يضع نظارة شمسية أثناء المعركة، ومع أنها هنات صغيرة أثارت غضبة الزير فراح يتجوّل، بين الكومبارس، يسبّ ويلعن ويبصق، من فوق حصانه، ولكم أن تتصوروا الكاريكاتير: عبارات السوقية العامية وهي تخرج من ذلك الفارس العربيّ!

أثناء ذلك المعمعان، تقدّمت من أبي نُوَيْرة (سيصبح العكيد أبو شهاب في مسلسلٍ آخر) لطلب قدّاحة، فأشار بيدين مفتوحتين أنه لا يملك واحدة، فيما عيناه تنظران باتجاه الزير خشية أن يسمعه مع أنه لم يقل شيئًا.

حصلت على حصان (بغل بصراحة). فبطريقة ما دخلت إلى قلب سائس الخيول الذي كان يشرب زجاجة جنًّا، ماركة "اللذيذ" مستندًا إلى المعلف. انطلقت إلى المعركة مثيرًا زوبعة غبار تليق بكلينت إيستود في أحد أفلام "سباغيتي ويسترن"، متمتمًا في مديح الحصان: "مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا".

دخلتُ المعركة إلى جوار جسّاس كيف لا وقد صرت من فئة الفرسان؟ لكنّ مساعد المخرج طلب منّي الرجوع إلى الصفوف الخلفية لأنّ الصف الأول (لم يوضّح ذلك بل فهمت لوحدي) للخيل الأصيلة. إذًا حصاني مثلي؛ كومبارس!

لو كان لي أن أتسمّى لاخترت اسمًا ذا علاقة بالقمر، ومن بين الأسماء القمرية لن أختار غير هلال! جاهليًا وثنيًّا سأكون، أراقب حركة القمر في منازله، وأرصد المدّ والجزر على الرمال، وأمارس القدح بالأسهم، وأؤلف مثل زهير بن أبي سلمى قصيدةً حوليةً.

ثم جلبوا الطعام لطاقم العمل من ممثلين وفنيين، أما الكومبارس فوعدوا بسندويشات لن تتأخر. سمعتُ خربوط يقول لأولاد الحارة: "هناك واحد لديه بندورة هيّا نرمِ سخطنا عليه". وفيما نهش الجوعُ الأحشاءَ جلستُ أتفرج على بكر وتغلب الغارقين في أطباق الدجاج المكسيكيّ والشيش طاووق والسَّلَطَة اليونانية.

بعد طول انتظار، نُصبتْ خيمة، ووضعت أمامها صناديق المشروبات الغازية. عرفنا أن طعامنا وصل أخيرًا فهبت الجيوش على بطونها، لكنّ المفاجأة التي أن الطعام لن يُقدَّم مجانًا، ومن لا يدفع فليبق جائعًا، ولأنّ الجميع مفلسون اخترع البائع ومساعدوه طريقة عجيبة لإطعامنا، وهي أن يسجّل كل شخصٍ اسمه لدى الرجل مع ما يريده، ليُخصم الثمن لاحقًا من أجرة كل نفرٍ من قبل مدير الإنتاج. شيء يشبه تلك الطريقة الريفية في الشراء على أن يكون السداد في الموسم. ذهل الجميع من الطريقة لكنهم وبشكل عفوي تمامًا اجترحوا أسلوبًا غاية في الدهاء، حيث صار كل من يصل إليه الدور يتناول كلّ المطروح من بضائع بوفيه الفقراء، وهي ثلاثة أصناف: مشروب غازي ماركة "كراش"، سندويش فلافل، دخان وطني ماركة "حمراء طويلة". بعد ذلك يعطيهم أيّ اسم يخطر على باله، ابتداء من اسم مجنون في المنطقة، أو طبيب غريب، أو صديق من مدينة أخرى، أي اسم ممكنٍ ما عدا اسم المشتري نفسه، ليحافظ على سلامة الـ250 ليرة. والغريب حقًا أن كمية الدخان نفذت بسرعة جنونية، فحتى غير المدخنين باتوا يُنفِّخون، فالمسألة ببساطة تتعلق بسحر المجاني.

في إحدى الاستراحات تعرفت على الدَّخْلُوْل، وهو شخص متخصص في هذه المهنة، وله مشاركات كومبارسية هامة في المسلسلات التاريخية عمومًا، فمنذ رمى نفسه في مسلسل "العبابيد" من سور قلعة، مُتصنّعًا الإصابة بسهم، ساقطًا في بركة ماء.، وهو يحمل لقبًا غريبًا "كومبارس أول". المشكلة أن تلك المعركة كانت ليلية، ووجوده طافيًا على سطح الماء جعله يصبح عنصرًا ثابتًا، ولك أن تتصور أنه قضى الليلة عائمًا حتى نجح تصوير المشهد. من الطرائف الهامة للدخلول، أنه في أول يوم دخل فيه إلى عالم التصوير، من بوابة الكومبارس طبعًا، طلبوا منه أن يؤدي دور مريض يعالجه طبيب بغدادي شهير، وما عليه إلا أن يصرخ ويتألم. الدخلول، وبإيعاز سريّ من موهبته الدفينة، راح يصرخ بالفصحى: "الرحمة.. الرحمة.. أرجوك ساعدني يا دكتور"، فما كان من المخرج إلا أنْ قفز من وراء المونيتور، وهجم عليه: "دكتور أيها الجحش؟؟ دكتور في العصور الوسطى؟". في تلك اللحظة، أمامي، مسح الدخلول وجهه وكأنَّ البصقة لا تزال طازجة.

من ذلك كله، كان لي عالم جاهلي خصوصي. واسع وممتد بصمتٍ. تخلّصت من سخرية الآخرين، أو بلسان جاهلي: "افرنقعَ القوم عني". نظرت في امتداد الأفق، وكنت مسكونًا بطرفة بن العبد. أوشكت أن أصرخ "لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمدِ/ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ"، غير أنني همسته داخلي، فلم تكن لدي كلمات تقول ما أريده. إبهام وغموض. كنت بحاجة إلى قربان من الكلام، قصيدة، معلقة كبقية المعلقات. الآن فقط أستطيع تفسير ذلك على ضوء ما قاله حسين البرغوثي، آخر الجاهليين، في نصّه "السادن": "سأل السادن نفسه كلمة قصيدة، أصلًا، تعني دماغ حيوانٍ ما، يكاد يتفصّد لسمنته، وسمّط ـ والمعلقات سميت سموطًا ـ تعني، أصلًا، نزع شعر الذبيحة بالماء الحار. هل تعليق المعلقات على الكعبة كان قربانًا من الكلام للآلهة؟ هل الكلام قربان، لكبش سمين (دسم) من المعنى؟ هل الكلمات ذبائح هذا الزمن السحيق في الذاكرة؟".

جُمع المقاتلون على تلةٍ، وأعلن حاتم علي على مكبر صوت أن المشهد القادم حسّاس، ورجانا الهدوء، غير أن مسعود الذي لا نعرف من أي سماءٍ هبط، راح يزعق بنا، نحن الذين نعرفه كأكذب وأجبن شخص في العالم: "لا أريد أن أسمع أي كلمة أيها الكلاب!"، واستدار إلى المخرج ليقول: "هل تأمرني بشيء آخر أستاذ حاتم؟". كان بإمكان الحشد الكبير تنفيذ حكم إعدام بحقه، وبالأخفاف التي ننتعلها، لكنه في الساعات التالية خلع لباس المقاتلين وبات يتجول مع المخرج، أو أحد مساعديه، أو مع الممثلين، وتناهت إليّ جملة كان يقولها بطريقة مونودرامية لسلوم حداد الذي لا يعيره انتباهاً: " هل من الضروري أن أكون خريج المعهد العالي للفنون المسرحية كي أمثّل؟ أرجوك اسمح لي بأن أفجر طاقاتي قبل أن أختنق".

أما المشهد المهم فلم يكن إلا المبارزة الشهيرة بين جسّاس وامرئ القيس. لسبب أجهله شدّني جسّاس. وأثناء عرض المسلسل اعتبرته النجم الأول. لا بدّ منه، فلولاه لم تكن هذه الملحمة أساسًا. وجب على أحدٍ ما أن يواجه جبروت كليب ويوقف عماء غطرسته. كلّما تذكرت جساساً أتذكر "أقوال جديدة عن حرب البسوس"، تلك المجموعة العظيمة التي سرق الموت شاعرها أمل دنقل قبل أن يكتب شهادات العديد من الشخصيات، وعلى رأسهم شهادة جساس. لكنّ ما يعزي أنَّ كاتب العمل ممدوح عدوان كان متيقظًا تمام اليقظة لهذه الشخصية، فعالجها بالشكل المأمول. وما ذلك إلا بسبب حضور قصائد أمل في باله. حتى ملصقة المسلسل التي ملأت الشوارع آنذاك وكان عبارة عن سيف مغروس في رمالٍ تقطر دمًا، ليست إلا صورة من قصائد تلك المجموعة: "واغرس السيف في جبهة الصحراء إلى أن يجيب العدمْ".

في لحظة لا تُنسى طرحونا على الأرض كموتى، رشونا بالدماء، وكل واحد تصنع طريقة لميتته المتخيلة. وضعوا سيفًا في أحشائي. كنت سأموت حقًا من سعادتي بفكرة الموت بسيف. ركض شابٌّ صارخًا: "لقد قتل همّام". يأتي الزير إلى جثة صديقه ويبكيه بكلمات تقطّع نياط القلوب. أوووه يا حرب البسوس، جعلتِ الصديق يردي الصديقَ، ويحمل عبء دمه على نعشٍ، هو الندم!

معركة الغروب تطلّبت لقطات لقتال الكومبارس، لتوضع من خلال المونتاج في أمكنتها المناسبة. ولما لم تكن هناك ضرورة لوجود أبي ليلى المهلهل، والذي رأيته يبتعد إلى خيمة الملابس ليعود من أسطورة الزير سالم إلى مجرد سلوم حداد (الذي نعرفه جيّدًا). ركضت نحو الحصان الأسود الأصيل وامتطيته كفارس حقيقي. لحظتها فقط كنت أقاتل من أجل الثأر، وكنت في الجاهلية مع حصان جاهلي، وكان جدار الزمن ينفتح كستارة مسرحٍ، لأقبض على لحظة تساوي كل الحياة التي سأعيشها لاحقًا.

*

ملاحظة لا بد منها: بعد يومين من الدوام الكامل، لم ينقدونا تلك الـ250 ليرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سورٌ حول الصحراء

ليكن النهرُ بريدنا