31-مايو-2023
مسلسل "باتمان"

من مسلسل "باتمان"

في كلّ مرة يُصيبني فيها الحنين إلى أزمنة الطفولة، أعودُ إلى الاستماع إلى شارات سبيستون، وفي كلّ مرة أعيدُ فيها الاستماع إلى تلك الشارات وأدخل في حلقات تأملية فيها، أزدادُ قناعة بأنّها ملاحم غنائية خالدة، وأنّ صناعها من مؤلفين وملحنين ومغنين حرصوا على تقديمها بهذا الشكل الملحمي، لأنّهم كانوا يحترمون عقول الأطفال، ويخاطبونهم بلغة من يريد أن يغرسَ فيهم مفاهيم وقيم معينة، ويتوسّم فيهم أن يكونوا جيل شباب المستقبل بحقّ "سبيستون في شعارها العام هيَ قناة شباب المستقبل".

بروس واين هو ذلك الطفل الذي رأى مقتل والديه في حادثة سرقة، وكان بإمكان هذه المأساة أن تحيله إلى مجرم يسعى للانتقام فقط، لولا أنّه اختار السير في طريق العدالة ومحاربة الجريمة

واحدة من الشارات الجميلة التي استوقفتني في آخر مرة أصابني فيها هذا الطقس الحنيني هي شارة الرسوم المتحركة "باتمان"، وهي من تأليف وغناء طارق العربي طرقان، تَظهر في بنائها كقطعة شعرية متماسكة، وتقول في كلماتها:

"باتمان.. باتمان

الحارسُ الذي لا يُهادن الشرّ

من كهفه انطلق مثلُ بارقٍ مرّ

عبرَ الطريقَ نحو الحقيقة فلا مكان للسرّ

لبطلنا روحٌ أمينة تكتشفُ اليقينَ

ضوءٌ لمَع وسط المدينة

رسمَ نداءً لمنادينا

حينًا يبدو ويختفي حينًا

تلكَ إشارة باتمان".

استذكرتُ وأنا أستمع لكلمات الشارة القصة العامة لفارس الظلام أو الرجل الوطواط، وهي قصة بروس واين، ذلك الطفل الذي رأى مقتل والديه في حادثة سرقة شهدها بعينيه، وكان بإمكان هذه المأساة الحياتية التي شهدها طفلًا أن تُسبّب له صدعًا نفسيًا عميقًا، وأن تحيله إلى إنسان مجرم ومشوّه يسعى للانتقام فقط، لولا أنّه اختار السير في طريق العدالة ومحاربة الجريمة.

تأمّلتُ في قصة فارس الظلام وسألتُ نفسي: كيفَ استطاعت شارة سبيستون أن تُقرّبنا من روح هذا الفارس وفلسفته العامة في الحياة؟

وللإجابة على سؤالي استدعيتُ بعضًا من الأفكار والفقرات التي قرأتها في كتاب مترجم لمجموعة من المؤلفين الأجانب بعنوان: "باتمان والفلسفة: الخوض في روح فارس الظلام"، فمما يرد في مقالات الكتاب أنّ شخصية الرجل الوطواط أو باتمان هي شخصية اختارها بروس واين لأنّها تُكمله، وتغرسُ فيه شعورًا جديدًا بالضمير الأصيل، لا يغمره الانتقام، وغير مثقل بتوقعات الآخرين.

بروس بحسب الكتاب اختار تحرير نفسه من ردة الفعل المعتادة على مأساة مقتل والديه، وبدلًا من اختيار طريق الانتقام، فقد رأى في تلكَ الحادثة - التي هي مـأساة عنف لا مبّرر ولا معنى لها- دعوة للثورة على حياة مليئة بالاستغلال والاستسلام والسخرية، حيثُ اختار مواجهتها بطريقة صعبة، تذكّره فيها في كلّ وقت وحين، عندما يواجه نفس ظروفها في مدينته غوثام، وعندما يُقاوم الجريمة التي ليست في نظره سوى عنف خالٍ من المعنى.

يقول باتمان في فيلم "Batman Begins": "كرجل فأنا من لحم ودم، بالإمكان تجاهلي او تدميري. ولكن كرمز؟ كرمز باستطاعتي أن أكون غير قابل للإفساد. باستطاعتي أن أكون أبديًا"

إن أفعال بروس واختياراته وحدها هي التي حددته وصنعت ماهيته، وهي التي جعلت منه الرجل الوطواط أو فارس الظلام، وهي التي جاءت كأبرز تمثيل على الفلسفة الوجودية ومبدئها العام الذي أقرّه سارتر في كتابه "الوجودية مذهب إنساني"، وبيّن فيه بأنّ "الإنسان ليس سوى ما يصنعه بنفسه"، فالإنسان بحسب سارتر: "يوجد أولًا، ثمّ يتعرف إلى نفسه، ويحتك بالعالم الخارجي، فتكون له صفاته ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده، فإذا لم يكن للإنسان في بداية حياته صفات محددة، فذلك لأنه قد بدأ من الصفر، بدأ ولم يكن شيئًا. وهو لن يكون شيئًا إلا بعد ذلك، ولن يكون سوى ما قدَّره لنفسه".

وفِعلًا فإنّ شارة سبيستون تجيء في كلماتها لتقرّبنا من روح وفلسفة فارس الظلام، فالرجل الوطواط في كلمات الشارة هو الحارس الذي اختار بكامل إرادته الحرة ألا يهادن الشرّ، حتى لو كان هو الشرّ الذي في داخله والذي يدعوه لسلوك طرق الانتقام العمياء.

تؤكّد الشارة في كلماتها بأنّ الرجل الوطواط يسعى لمحاربة الجريمة وإقامة العدالة بصدق وأمانة، وهو ما يجعله يستمرّ في مسعاه دون كلل أو ملل رغمَ توالد الجريمة الدائم وانبعاثها من جديد، فكأنّ يقينه بجدوى محاربة الجريمة يقوم على إدراك داخلي لديه بأنّ الجدوى من الفعل نابع من الاستمرار في تأديته بصدق وتفانٍ دون التأكّد من حتمية الوصول إلى نتيجة (لبطلنا روحٌ أمينة تكتشف اليقينَ).

هناك مقولة ترد على لسان بروس واين في فيلم الجزء الأول من ثلاثية فارس الظلام الشهيرة، والذي يحمل عنوان "Batman Begins" يقول فيها: "كرجل فأنا من لحم ودم، بالإمكان تجاهلي او تدميري. ولكن كرمز؟ كرمز باستطاعتي أن أكون غير قابل للإفساد. باستطاعتي أن أكون أبديًا"، ورّبما بأنّ سبيستون في شارتها عن فارس الظلام حمَلت أجيالًا كاملة على استحضاره كرمز أبدي، وكضوء جميل ينبثق من قلب الظلام، ويَظهر وسط المدن، ليحارب الفساد وينادي بالعدالة، أو ربّما حملتهم على تمثّله داخل رؤوسهم ليكونوا هم أضواء المدن، وليخرجوا في ميادينها وشوارعها صارخين بملء الصوت فيهم، ومنادين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.