09-ديسمبر-2017

لقطة من فيلم Eternity and a Day

ثيو أنجيلوبولس (1935 - 2012) سينمائي يوناني كبير، يشكّل نسيجًا وحده وسط مخرجي اليونان الكبار، حتى بين مخرجين من جيل سابق، مثل مايكل كاكويانيس وجول داسان وكوستا جافراس، سواء على المستوى القومي أم في سياق السينما العالمية. ليس فقط لأنه يصنع سينما تعد نقيضًا لسينما هوليوود، وإنما أيضًا لأنه ينطلق دائمًا من خصوصية الثقافة اليونانية القديمة والحديثة، بما فيها من بعد تاريخي وفلسفي وسياسي وديني وميثولوجي وفولكلوري، نحو نظرة شاملة كلية وإنسانية ذات أبعاد كونية.

سينما ثيو أنجيلوبولوس مسكونة بطفولته، وما شهدته حياته الطويلة من اضطرابات سياسية في بلده العريق

سينما أنجيلوبولوس مسكونة بطفولته، وما شهدته حياته الطويلة من اضطرابات سياسية في بلده العريق، وهي أيضًا مرآة لأسئلة كثيرة في التاريخ اليوناني المعاصر. روافد كثيرة تحملها أفلامه ومواضيع مختلفة وثقيلة، تجعل تجربة مشاهدتها خاصة ومميزة وصعبة النسيان.

وفي ظل هيمنة الفيلم الهوليوودي على شاشات العرض العام المصرية والعربية في السينما والتلفزيون معًا، وفي غياب المناخ الملائم، باستثناء حالات محدودة لأنشطة المراكز الثقافية الأجنبية وصالات السينما المستقلة مثل "زاوية" في القاهرة و"متروبوليس" في بيروت، وتحت وطأة قيود توزيع الفيلم غير الأمريكي؛ فإننا نعيش حالة حصار سينمائي وعزلة فعلية ليست فقط عن سينمات البلدان الأخرى، التي ربما يكون ما بيننا وبينها من المشتركات الثقافية والتاريخية والمستقبلية أكثر مما بيننا وبين ثقافة الفيلم الهوليوودي.

اقرأ/ي أيضًا: كيف عبّر فيلم "موكب جنازة الورد" عن مثليي الجنس في اليابان؟

بل إن حالة الحصار تعزلنا عن الكثير من مبدعي السينما في كافة أنحاء العالم، ممن يجسّدون رؤى أشد حميمية ومختلفة تمامًا عن الرؤى السائدة في السينما الأمريكية الهوليوودية. الشهر الماضي تشرين الثاني/نوفمبر، كان للجمهور المصري لقاءً مع سينما المُعلِّم اليوناني، من خلال عرض فيلمه "الأبدية ويوم" ضمن فعاليات النسخة العاشرة من بانوراما الفيلم الأووربي، وهي مناسبة لإطلالة على عالم السينمائي المسكون بالهواجس والأسئلة الكبرى.

أنجيلوبولس، الذي أنجز 13 فيلمًا روائيًا طويلًا خلال مسيرة امتدت لأربعة عقود، وأدهشت العالم ونالت أكبر الجوائز في أهم المهرجانات الدولية، وربما أصبح بعضها من الكلاسيكيات؛ لا يزال واحد من المبدعين العظام المجهولين للمشاهد العربي.

أسباب ذلك ربما تعود لابتعاد سينما المعلم اليوناني عما تمتاز به السينما السائدة، أو بالأحرى تقف على النقيض منها، لا في السرد فقط، حيث تتبع أبنية سرد مختلفة ومبتكرة، ولكن، وهذا هو المهم، في الرؤية والنظرة إلى العالم. إنها سينما تستوعب الثقافات القديمة، التي قامت على أسسها الثقافة الغربية المعاصرة، مع تركيز على ثقافة اليونان وثقافات منطقة البلقان عمومًا.

وأفلام أنجيلوبولس هي تجوالات طويلة على غرار الأوديسا، وأسفار يتنقّل فيها الفرد أو الأبطال عبر أماكن كثيرة، ويتجاوزون حدود الخاص إلى العام. وبحسب كلمات أندرو هورتون في كتابه "أفلام ثيو أنجيلوبولس: سينما التأمل"، فهي أفلام "يعبر فيها الحدود بين التاريخ والأسطورة، والماضي والحاضر، وكشف الذات والحس الاجتماعي، والسكون والضجيج، وما يُرى وما لا يُرى، اليوناني وما هو غير ذلك".

القطع في اللقطة الطويلة عند أنجيلوبولوس قطع مُخرج، وليس قطع مونتير. هو قطع انتقائي أسلوبي

وفي عبوره لكل تلك الحدود يتامل أنجيلوبولس الأشياء، ويتخذ تأمله أشكالًا مختلفة: فلسفية وفكرية ووجدانية، ويقترب أحيانًا من الصوفية. ويعبّر عن ذلك كله بالوسيلة التي يجيدها وهي السينما، وبتقنيات فنية تعتمد على الصورة أكثر من اعتمادها على الصوت والحوار، مجسدًا رؤى تضعه في مصاف كبار المبدعين في السينما خصوصًا وفي الفن عمومًا. وتأمله ليس مجرد تأمل ذاتي للنفس والعالم والتاريخ، بمعنى أنه لا يقدّم سينما ذاتية خالصة، ولكنه بجانب هذا وبالقدر نفسه يقدم عرضًا موضوعيًا للعالم والبيئة والمحيط.

إنه ينحاز للإنسان ولأجمل ما عنده بالمنظور المثالي في الفلسفة. وهذا المزج الفريد بين الذاتي والموضوعي يكسب أفلامه عاطفة عميقة ويضفي عليها غنائية (Lyricism)، تجعلها هي ذاتها مادة للتأمل العميق ولمراجعة النفس مرة تلو الأخرى.

في نهاية القرن الماضي كتب الناقد السينمائي الكبير بيل نيكولز: "إن الواقع المعقد لنهايات القرن العشرين، بكل ما فيه من وسائل الاتصال، والذي يسمى بالخطأ "عصر المعلومات"، هو واقع يحتاج إلى سرد يمكنه أن يشمل ويطوق كل هذا السيل من المعلومات".

أفلام أنجيلوبولس استطاعت تحقيق هذا الهدف الذي أشار إليه نيكولز، بابتكار أساليب سردية تحفل بالكثير جدًا من الزخم، ويمكنها تجسيد الواقع المركّب والمعقد دراميًا من خلال تفاصيل غاية في التكثيف، ورغم ما بها من اقتباسات وإحالات ومقابلات وتعارضات إلا أنها تقترب من سينما الشعر.

اقرأ/ي أيضًا: دارين أرنوفسكي: كنت أتمنى أن أكون أكثر تحكمًا

وهي أيضًا أفلام غير تقليدية، تحتاج لاستيعابها كاملة إلى معرفة واعية بالثقافات الأخرى، وذلك ليس عيبًا في نهاية الأمر فبعض أعمال الفنون الكلاسيكية تنطبق عليها الصفة ذاتها، سواء كان ذلك في الشعر أم المسرح أم الرواية أم الأوبرا، والسينما كفن أصبحت هي أيضًا قادرة على جمع أنواع مختلفة من تلك الفنون بداخلها، حتى إن كان الكثير من إنتاجها هدفه الأساسي الترفيه والتربح.

سمات مميزة

هناك الكثير من الملامح الأساسية المميزة لأفلام أنجيوبولوس يمكن إيجاز بعضها في ما يلي:

- الصورة توحي بأكثر من مظهرها، أي أنها ليست صورة إيضاحية شارحة.

- يمكن أن تُشاهد أفلامه كأفلام صامتة، لقلة ما بها من حوار، وبتركيزها على الصورة.

- تبدي أفلامه ولعه الشديد بالتاريخ، وتدعونا إلى إلقاء نظرة أخرى إلى ما ترسّب لدينا من قناعات. ولديه افتتان عميق بالأسطورة والثقافة اليونانية، وأصداء ماضي اليونان الكلاسيكي والبيزنطي وما بعدهما.

- للتأمل عنده مفهوم محدد، هو إجبار المشاهد على القيام بدور المؤلف أو الرحَّلة المشارك لصانع الفيلم، ولذا يعمد إلى ترك فجوات يملأها المشاهد بنفسه، سواء في الصورة أو الصوت، وتلك سمة تناقض تمامًا الفيلم الهوليوودي الذي يحرص على تقديم كل كبيرة وصغيرة من خلال السرد والمعلومات الخاصة بالشخصيات.

- لديه مفهوم خاص عن الشخصية، وهو ضد "دوافع الشخصية" بالمعنى الهوليوودي، القائمة على الأسباب والنتائج. وهو مهتم بالفرد لا بالمعنى السيكولوجي بل بالمعنى الدرامي. وبالتالي فإن شخصياته رموز إنسانية وليست مجازات سيكولوجية.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Celine and Julie Go Boating": أهمية أن تقدس الجنون

- يبدي في أفلامه اهتمامًا دائمًا بريف اليونان، ضمن اهتماماته بماضي وحاضر ومستقبل القرية اليونانية، ويرى أن القرية عالم كامل مصغر. ويكاد يتفرّد بين كبار المخرجين اليونانيين بالبحث عن اليونان الأخرى المهملة المنبوذة، يونان الليالي الباردة الموحشة، وليست يونان الملصقات السياحية والمنتجعات والشواطئ المشرقة.

- هناك تأثر بأفلام جان لوك جودار الأولى في استخدام الوسيط السينمائي، وفي خلق نوع من التواصل بينه وبين الجمهور. كما إنه متأثر بأندريه تاركوفسكي لا سيما في تجسيد حالات التأمل والحنين على الشاشة.

تبقى سمة بالغة الأهمية، من حيث البناء السردي للفيلم المرتبط بدلالات المعنى، وهي استخدام اللقطة الطويلة (Long take). واللقطة الطويلة هي اللقطة التي تستغرق عرضها على الشاشة بدون قطع وقتًا أطول من المعتاد، قد يستمر عدة دقائق، ويصل وقت بعضها في أفلامه إلى 15 دقيقة.

الواقع المعقد لنهايات القرن العشرين، بكل ما فيه من وسائل الاتصال، والذي يسمى بالخطأ "عصر المعلومات"، هو واقع يحتاج إلى سرد يمكنه أن يشمل ويطوق كل هذا السيل من المعلومات

واللقطة عند أنجيلوبولس لا ينطبق عليها تعريف أندريه بازان حول تطابق زمن اللقطة مع زمن الحدث من أجل تقديم "واقعية زمانية"، إنما هي أقرب لكونها الزمن اللازم لتقديم ميزانسين (تكوين) المكان. ومع ذلك، فهي لا تشكّل حالة نقية في ذاتها يمكن فصلها عن بقية الفيلم، وهي أقرب إلى أن تكون تتابع كامل مصور في لقطة واحدة، ومتضافرة دائمًا من حيث البناء مع لقطات أخرى قصيرة.

والقطع في اللقطة الطويلة عند أنجيلوبولوس قطع مُخرج، وليس قطع مونتير. هو قطع انتقائي أسلوبي، لأنه مرتبط برؤية صانع الفيلم أولًا، وبالإيقاع ثانيًا، والذي لا يُنجز من خلال اللقطة الطويلة وحده، بل بالحركة داخلها: حركة الأشياء وحركة الكاميرا معًا. والميزانسين في اللقطة الطويلة هو بالتالي الشكل المواجه للمونتاج في نظام التتابع.

لا أرغب في الاستغراق في تعريف آليات تنفيذ اللقطة الطويلة من حيث أوضاع وحركات الكاميرا، فالهدف من ذلك توضيح استخدام اللقطة الطويلة عند أنجيلوبولس كمنهج جمالي له أسلوب أو أساليب محددة، غايتها ليس مجرد أن يتابع المتفرج ما يجري أمامه بل أن يعي ويدرك عملية كشف لحظة أو لحظات درامية أثناء حدوثها أو تجسيدها في الزمن والمكان.

وبكلمات أخرى، اللقطة الطويلة هنا أساسية في بناء الفيلم، لا باعتبارها أسلوب تصوير، أي مجرد شكل بلا معني، وإنما هي وسيلة بلاغية في التعبير لتوصيل معني وإبراز ثيمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف استخدمت الرمزية والإسقاط في السينما والدراما؟

فيلم "Loving Vincent".. كيف استطاع 100 رسام تخليد ذكرى فان جوخ كأفضل ما يكون؟