18-يناير-2017

سينما الكورسال (فيسبوك)

"علي بابا"، "رويال"، "الشرق"، "الكورسال"، "الأمير"، "التحرير"، "الفنتازيو"، "ابن البلد"، "ألف ليلة".. قائمة طويلة من دور العرض السينمائي القديمة التي أُطلق عليها "سينما الترسو" أو "سينما الدرجة الثالثة" شاع وجودها في العاصمة المصرية، وكان يمكن لأي شخص أن يدخلها ليشاهد أفلامًا يغلب عليها طابع الإثارة عرضها التلفزيون مئات المرات ولكنها موجودة داخل تلك السينمات في عرض مستمر بتذكرة ذات سعر رمزي لا يزيد عن 6 جنيهات.

هذه السينمات فقدت روّادها وبريقها الآن بعدما نالت شهرة واسعة خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، حيث أصابتها الشيخوخة والدمار بعدما عجز أصحابها عن صيانتها أو ترميمها، إضافة إلى هدم العشرات منها لتظهر بدلًا منها أبراج سكنية ومحلات لسلاسل تجارية كبيرة، بعدما كانت تخدم هذه الدور قطاعًا عريضًا من المصريين وتمدّهم بالمتعة والترفيه حيث ما زالت السينما تمثّل أحد أهم مصادر الترفيه للشعب المصري.

سينمات الترسو فقدت روّادها وبريقها الآن، حيث أصابتها الشيخوخة والدمار بعدما عجز أصحابها عن صيانتها أو ترميمها

وإذا عُدنا بالذاكرة قليلًا نجد زحام مئات المواطنين أمام دورالعرض ينتظرون بشغف جديد بداية العرض السينمائى، هؤلاء الرواد أطلقوا على نجوم السينما المحبوبين أبرز الألقاب الفنية التى ما زالت عالقة بأذهان الملايين من محبى الفن السابع ومرتبطة بهؤلاء الفنانين حيث اختاروا للفنان فريد شوقى لقب "وحش الشاشة" و"ملك الترسو" ونادية الجندي كانت "نجمة الجماهير" أما نبيلة عبيد فكانت "نجمة مصر الأولى".

نهاية مأسوية

ورغم الشهرة الكبيرة والدور الحيوي الذي قامت به دور العرض القديمة خلال السنوات الماضية إلا أن هذه الدور تتعرض لنهاية مليودرامية، ولا يوجد بارقة أمل أو ضوء في نهاية هذا النفق المظلم، فجميع القائمين على صناعة السينما في مصر أخلوا مسؤوليتهم من إصلاح هذه الصناعة الهامة أو ترميم دور العرض القديمة من أجل مواكبة التطورات التكنولوجية الحديثة، نظرًا لما تتطلبه هذه الصناعة من أموال طائلة في ظلّ عدم توافر الإمكانات المادية لأصحاب دور العرض لترميمها او إصلاحها أو حتى شراء معدات عرض حديثة.

واحدة من هذه السينمات سينما "الفانتازيو" بالجيزة، والتي تعتبر من أقدم السينمات في مصر، حيث تأسست منذ أكثر من عشرينيات القرن الماضي ولكنها أغلقت أبوابها عام 2000 وتحولت إلى مكان مهجور قبل أن يقرر ورثة مالكها تحويلها إلى مخزن للبضائع وسوق للباعة، لأن ذلك "سيحقق لهم عائدًا ماديًا مناسبًا"، رافضين إعادة إحيائها من جديد للكلفة الكبيرة التي سيتحملونها، فضلًا عن أنها لن تعوضهم بالمكاسب التي تغطي تلك التكلفة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "نار في البحر".. مأساة لامبيدوزا بعين كسولة

في حديثه لـ"ألترا صوت"، يقول محمد عباس المدير السابق لسينما "الفنتازيو" بالجيزة: "إن دار العرض لحق بها أضرار جسيمة، ولم يتم صيانتها أو ترميمها منذ عام 1983" مؤكدًا أن أصحاب الدار لم يمتلكوا الإمكانات المادية لإعادة الحياة أوالثورة التكنولوجية الحديثة نظرًا لارتفاع أسعار آلات العرض والتجهيزات الفنية مشيرًا إلى أن غالبية دور العرض القديمة ليس لديها القدرة على منافسة دور العرض الحديثة الموجودة في المجمعات السينمائية والمولات التجارية. ورغم ذلك، يقول عباس: "إننا ما زلنا على عهدنا مع رواد السينما حيث نقدّم ثلاثة عروض يوميًا بأسعار تتناسب مع كافة طبقات الشعب إلا أننا في الوقت نفسه نعاني من صعوبة استقدام نسخ جديدة للعرض السينمائي لأنها تتكلّف مبالغ كبيرة إضافة إلى تهرّب الموزّعين من العرض لدينا لضعف العائد المادي".

ويؤكد عباس على أن القائمين على صناعة السينما في مصر ينظرون إلى دور عرض الدرجة الثالثة على أنها منبوذة من الجميع حيث إنهم يلهثون وراء دور العرض الحديثة التي تتميز بالتكنولوجيا الحديثة والإمكانات العالية وفي نفس الوقت العائد المادي المرتفع، على حد قوله. والحال أن "سينما الترسو" في طريقها إلى الانقراض رغم توفّر روادها، وذلك بعدما سحبت القنوات الفضائية البساط من تحت أقدامها بما تقدمه من وجبات سينمائية ودرامية مكثفة، وهو ما أدى إلى تراجع الإقبال عليها وإهمال أصحابها لها، مما دعى إلى بيعها أو هدمها أو تغيير نشاطها، مثلما حدث مع سينما "كريستال" بحي النزهة القاهري، والتي تعد من أقدم دور العرض في مصر، التي تحولت على يد مالكيها إلى جراج عمومي.

سينما الترسو في طريقها إلى الانقراض رغم توفّر روادها، وذلك بعدما سحبت القنوات الفضائية البساط من تحت أقدامها بما تقدمه

الأمر نفسه تكرر مع سينما "الأهرام" بالجيزة التي تقرر إقامة مشروعات تجارية في إطار مشروع إعادة هيكلة قطاع السينما في شركة مصر للصوت والضوء، وإعادة استغلال أصوله غير المستغلة. أما المصير الأبشع فكان من نصيب سينما "ريكس"، إحدى أهم وأكبر سينمات وسط الإسكندرية، التي تحولت إلى خرابة مهدمة يرتادها البلطجية والخارجون عن القانون ويحاصرها الباعة الجائلون ومواقف الميكروباص العشوائية، بعدما توقف العمل فيها منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، رغم ملكيتها لوزارة الثقافة المصرية.

سيطرة البلطجية

يرى بعض النقاد أن سينما الدرجة الثالثة فقدت بريقها بعدما كانت تحظى بجماهيرية كبيرة في أوساط طلاب المدارس والحرفيين وأبناء الريف والعمال وهي الطبقة الشعبية الواسعة في المجتمع حيث كانت تخاطب رغبات الجماهير بالأفلام الرومانسية أحيانًا وأفلام الإثارة والعنف أحيانًا أخرى، ولكن بظهور التقنيات الحديثة في وسائل الإعلام والاتصال تأثرت دور العرض السينمائية بشكل عام و"سينما الترسو" بشكل خاص. ففي الوقت الحالي يستطيع المتلقي أن يشاهد أحدث الأفلام المصرية والعالمية دون أن يغادر بيته.

بظهور التقنيات الحديثة في وسائل الإعلام والاتصال تأثرت دور العرض السينمائية بشكل عام و"سينما الترسو" بشكل خاص

ومن ناحية أخرى يشير البعض إلى وقوع "سينما الترسو" في عدد من السلبيات من أهمها عرض أفلام مستهلكة غير صالحة للعرض إضافة إلى أن بعضها يحتوي على مشاهد جنسية سواء أكانت أفلامًا تركية أو لبنانية علاوة على عدم وجود مقاعد صالحة للرواد وسيطرة البلطجية على قاعات السينما والقيام بأعمال وتصرفات غير مشروعة حتى أصبحت دور العرض "وكرًا للمشبوهين والباحثين عن إشباع الرغبات الدنيئة".

رجال الأعمال

ويحمّل كثيرٌ من المتابعين والمهتمين مسؤولية انقراض السينمات الشعبية إلى غرفة صناعة السينما، والسبب في ذلك الاتهام يعود إلى أن تلك السينمات لا تتوفّر لديها أفلام كافية لعرضها طوال فترات العام وهو ما يؤدي إلى إفلاس معظمها، لأن نوعية الأفلام هي التي تحدد الجمهور وآلية السوق، كما تتحكم في مدى الإقبال الجماهيري.

وجدير بالذكر أن الإنتاج السينمائي المصري تقلّص في العقدين الأخيرين ليصل في بعض السنوات إلى 20 فيلمًا فقط، وهو ما يؤثر سلبًا على مدى تحصّل السينمات الشعبية على نسخ من الأفلام لعرضها بعد انقضاء عرضها في سينمات الفئات الأعلى دخلًا، وكذلك يؤثر على المدة المتاحة لها لعرض تلك الأفلام.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "أنا أولغا هيبناروڤا".. خيارات داعشية

وعلى الجانب الآخر، يرى سينمائيون أن "سينما الترسو" أصبحت واقعًا مفروضًا بسبب الظروف الاقتصادية وبالتالي يجب على رجال الأعمال المشاركة في إنقاذ هذه الدور والمساهمة في صناعة السينما من خلال بروتوكولات لإعادة ترميم وصيانة دور العرض القديمة التي تلقى رواجًا جماهيريًا وفي نفس الوقت ستحقق أرباحًا مادية عالية.

يرى سينمائيون أن "سينما الترسو" أصبحت واقعا مفروضًا وبالتالي يجب على رجال الأعمال المشاركة في إنقاذ دور السينما تلك

وبحسب أحد أعضاء غرفة صناعة السينما، رفض الكشف عن اسمه، فإن "العولمة السينمائية التي نعيش نتائجها حاليًا لا تقبل الكيانات الصغيرة رغم أنها تحقق رغبات وأمنيات قطاع عريض من المجتمع"، مؤكدًا على أنه "في الماضي كنا نقيس مدى نجاح الفيلم أو فشله من إقبال الجماهير عليه في سينمات الترسو، فالفن السابع كان يمثّل بالنسبة للمتلقي أهم متعة في حياته نظرًا لأن ثمن التذكرة يتناسب مع جمهور المشاهدين وإمكانياتهم المادية، ولكن الآن يبدو أن رجال الأعمال أعلنوا الحرب على "سينما الناس العاديين" ويسعون لبناء الأبراج والمولات مكانها لتحقيق أرباح سريعة ومضمونة".

غير أنه يبقى أمل بسيط في أن تعود الحياة لسينما الترسو ولو قليلًا في الفترة القادمة، فقد لوحظ في السنوات الأخيرة اتجاه عدد من كبار المنتجين السينمائيين إلى إعادة إحياء نمط السينمات الشعبية في المصايف والمدن الساحلية مثل الإسكندرية مرسى مطروح، إذ يقوم المنتج بالاتفاق مع رئاسة المدينة أو الحي التي تختار له مكانًا ما وسط المدينة لبناء ما يشبه مخيمًا أو سرادقًا به دور عرض ولا يكلّفه سوى آلة عرض 35 مل ولا يتجاوز سعر التذكرة في هذه السينمات المؤقتة نصف سعر التذكرة في السينمات الحديثة.

فهل يتوسّع هذا التقليد مستقبلًا ليشمل باقي المدن وينسحب على باقي فترات العام، في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تثقل كاهل غالبية المصريين، أم يبقى الحال على ما هو عليه ونقول وداعًا لجزء بارز من التاريخ السينمائي المصري؟



اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "هي".. الاغتصاب كغريزة معكوسة

6 من أجمل الأفلام التي شاهدتها في 2016

فيلم "أهلًا بكم في هارتمان".. حرب على التنميط