15-مارس-2016

حلب (Getty)

يبدو قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسحب الجزء الرئيسي من قواته في سوريا، مفاجئًا بقدر ما يأتي في خضم نجاح ملحوظ للتدخل في فرض أجندته السياسية على الساحة السورية. غرابة توقيت الانسحاب الروسي، لا تحتاج دليلًا أكبر من تصريح المتحدث باسم البيت الأبيض عن حاجتهم لمعرفة النوايا الروسية، وكذلك حديث أعضاء وفد المعارضة المفاوض في جنيف، المتفقين على جملة "انتظار رؤية الفواعل الحقيقة للقرار على الأرض"، فالانسحاب يبدو بالفعل كأنه يأتي عكس مسار الأحداث، ولذلك قد يكون أكثر التفسيرات السريعة احتياجًا لإعادة التفكير هو تفسير الانسحاب بكونه هزيمة ودليلًا على الفشل الروسي.

 دفع التدخل الروسي، المدعوم أمريكيًا بشكل ضمني، عملية المفاوضات بين الأسد ومعارضيه إلى أبعد نقطة وصلت لها في خمس سنوات كاملة

صحيح أن مشاكل روسيا الاقتصادية من الممكن أن تكون عجلت بهذا الانسحاب، وأن اختلافًا إيرانيًا روسيًا، مضافًا إلى صلف أسدي في الاتكال على الروس لرفض أي تفاوض جدي، قد يكون ساهم أيضًا في هذه العجلة. لكن لا يمكن لمراقب موضوعي أن ينكر أن التدخل الروسي قد حقق بالفعل جزءًا معتبرًا من أهدافه، وأنه غير خارطة الحرب السورية إلى الأبد.

اقرأ/ي أيضًا: التحالف العسكري الإسلامي..هزل أم جد؟

كيف غير التدخل الروسي خارطة الحرب السورية؟

أولًا، منذ بداية العمليات الروسية، عرف الجميع أن روسيا تستهدف، بالأساس، المعارضة المصنفة دوليًا كمعارضة معتدلة يمكن التفاوض معها، ولذلك حرص الروس على تحجيم هذه المعارضة ومحاصرتها وإضعافها بالشكل الذي يخل بقدرتها على طرح نفسها كبديل للنظام السوري، وبالفعل نجح التدخل الروسي، بعد أن حقق اختراقات ميدانية عديدة، في فرض فكرة الحل السياسي على الفصائل السورية المعارضة المسلحة، بما فيها أغلب فصائلها الجهادية، بعد ما كان الحل السياسي مقصورًا على المعارضة السياسية في الخارج، اقتناع المعارضة بتأزم الوضع الميداني والحاجة للسياسة أصبح راسخًا لدرجة أن هناك استنكاف واضح من أغلب الفصائل لرفض بعض الحركات الجهادية لأي هدنة، واتهامات صريحة لها، من قبل نشطاء سوريين، بأنها تستهين بدم السوريين عندما ترفض الهدنة والتفاوض.

ثانيًا، التدخل الروسي، أنهى حالة الزخم العسكري للفصائل الإسلامية الجهادية، الحالة التي كانت فيها منذ وقت نجاحها في الدخول لإدلب وامتلاك أغلبها، والتي كانت بدأت تنعكس في خطط كثيرة لاستنساخ تجربة جيش الفتح، أو الإعلان عن معارك كبرى، مرت أغلبها دون نجاح كبير مثل نجاح إدلب، لكن الروح كانت أن الفترة فترة تمدد، وانحسار لقدرة المليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية على الصمود لفترة طويلة، وهي الفترة التي وضع التدخل الروسي حدًا لها.

ثالثًا، دفع التدخل الروسي، المدعوم أمريكيًا بشكل ضمني، عملية المفاوضات بين الأسد ومعارضيه إلى أبعد نقطة وصلت لها في خمس سنوات كاملة، لو تمت عملية التفاوض كما هو مخطط لها، يكون التدخل الروسي قد قام بمهمة شديدة التعقيد، وهي مهمة تجهيز الساحة لحل نهائي، وهي المهمة التي عجز عنها السعوديون والأتراك والأمريكان والأكراد والأوروبيون والإيرانيون وحزب الله.

رابعًا، بمقارنة التدخل الروسي، بالمحاولات الأمريكية والأوروبية لدعم أطراف من المعارضة والأكراد لخلق نواة قوة مسلحة قادرة على فرض حل ما، يمكن فهم لماذا يصعب وصف المهمة الروسية بالفشل، بدون أن نضطر بالطبع لمقارنتها بتدخلات أخرى بهلوانية مثل محاولة الأتراك والأمريكان تدريب قوات لمحاربة داعش، والتي لم تكن أمريكا ولا تركيا جادين فيها منذ البداية.

خامسًا، كان التدخل الروسي منذ البداية، محميًا بالضجر الأمريكي من طول الحرب ومن تعقد مسارات حلولها، وكان واضحًا أن هناك رهان أمريكي على أن ينجح التدخل الروسي في تغيير موازين القوى، بالشكل الذي يسمح للدبلوماسية الأمريكية، أن تتدخل بعد حين، لوضع حد للتدخل الروسي نفسه ومن ثم التفاوض مع الأسد والروس والإيرانيين من جانب، والمعارضة السورية والسعوديين والأتراك من جانب آخر، حول حل سياسي وسط مناسب لكل الأطراف، وهنا يمكن القول أن الرهان الأمريكي كان في محله.

نجح التدخل الروسي في تحجيم الطموح السعودي التركي في التدخل في الشمال السوري، وفي شل أي تحركات عسكرية كان ينتويها الطرفان

سادسًا، نجح التدخل الروسي في تحجيم الطموح السعودي التركي في التدخل في الشمال السوري، وفي شل أي تحركات عسكرية كان ينتويها الطرفان، ونجح في تعطيل الأحلام التركية بعمل منطقة آمنة في الشمال السوري، بالشكل الذي جعل كلا الدولتين تنحصران في العملية الدبلوماسية التي أفرزها التدخل نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: تنديد مغربي شعبي بتصريحات بان كي مون عن الصحراء

ماذا يمكن أن يفرز ذلك؟

التدخل الروسي قد يكون حقق جزءًا من أهدافه، لكن سيظل هناك احتمالًا كبيرًا في كل الأحوال، ألا يزيد إعلان الانسحاب عن كونه مجرد مناورة سياسية لأغراض مؤقتة جدًا، مثل الضغط على النظام السوري في المفاوضات، أو حتى تأبيد الوجود الروسي بتخفيف حدته، جعله يبدو هامشيًا فيكون بذلك خارج إطار التفاوض، وبمجرد تحقق الهدف من الإعلان قد يتم التراجع عنه، لكن إن تم هذا الانسحاب فعلًا، وهناك دوافع كثيرة للشك في جديته، فقد يكون، في حال تعثرت عملية التفاوض، له نفس تأثير التدخل نفسه، من حيث قدرته على تغيير خارطة الحرب مرة أخرى.

بشكل عام، هناك سيناريوهان لعملية الانسحاب إن تمت فعلًا، الأول، إما أن يكون ذلك جزءًا من تسوية كلية للقضية السورية، فتكون دفعة لعملية التفاوض، وبذلك يكون التدخل الروسي محكومًا عليه تاريخيًا بالنجاح في حماية النظام السوري وفرض خياراته، وبالحد الأدنى من التورط والخسائر.

والثاني، أن يحصل الانسحاب وتستمر الحرب، وهنا قد تنهار الانتصارات الروسية جزئيًا، فالأسد سيجد في مكان تفاوضي أفضل مما كان فيه قبل التدخل، لكنه ليس المكان الذي كان يقف فيه بالأمس القريب، ويهدد فيه بالحسم العسكري في كل سوريا، كما ستؤول المعارك الميدانية مرة أخرى للميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية والتي لم يعد سجل معاركها مع المعارضة السورية، سجلًا مشرفًا، بعدما خسرت عشرات المعارك في العام الماضي. وستستعيد المعارضة وقتها روح المبادرة التي خسرتها منذ بداية التدخل وستستفيد حينها من إمكانية زيادة التدخلات التركية السعودية، التي كانت محجمة تمامًا في وجود روسيا، ومعها إعادة شبح سقوط النظام مرة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا:

الجربا من القاهرة..سلام للثورة المضادة

دولة الأكراد في سوريا..أقرب من أي وقت مضى